كلما صاح الديك يطلع علينا مَن يريد إعادة هيكلة القطاع المصرفي. كلام حق غالباً ما يُرادُ به باطلاً. هذا ينادي بتقليص عدد المصارف إلى خمسة لتوزيعها ربما على أمراء الطوائف بالعدل والسوية! وذاك يريد فحص دم كل مصرفٍ على حدة. فيصدر شهادات حسن أو سوء الأداء ليصار إلى فرز المصارف بين فئتين: البنوك الجيدة والبنوك السيئة (Good/Bad Banks).
لا يقول لنا أصحاب هذه المقاربة إذا كانوا يعتبرون الودائع التزامات سيئة مقابل الموجودات السيئة. أما إذا كانوا يقاربون الـ Bad Banks بالمعنى المتعارف عليه عالمياً أي من جهة أولى الأصول المتعثرة في محفظة القروض للقطاعين العام والخاص، فليطمئنوا لأنّ المصارف تتعامل مع هذا المفهوم من خلال تكوين المؤونات وتخفيض الرساميل وقد تراجعت بمقدار أربعة مليارات دولار خلال الفترة الممتدة من كانون الأول 2019 الى أيلول2021. هذه المقاربة تستدعي ثلاث ملاحظات.
أولها أن محفظة القروض للأسر والمؤسسات قد تراجعت للفترة ذاتها من 50 مليار دولار إلى 30 ملياراً. ذلك أن المستفيدين من القروض قد سارعوا إلى تسديدها بحجم يناهز 20 مليار دولار مع كل الأذى اللاحق بالمودعين!.. فسقطت بذلك عملياً مقاربة البنك الجيّد والسيئ. وثانيها الملاحظات أن المصارف تعاملت مع الأصول المتعثرة بما فيها الناتجة عن توقف الدولة عن الدفع من خلال مؤوناتها ورساميلها. وقد تراجعت الأخيرة بمقدار 4 مليارات دولار للفترة الممتدة من كانون الأول 2019 الى أيلول 2021. أما ثالث الملاحظات فتكمن في كون مقاربة الـ Good/Bad Banks هي مقاربة عقيمة في الحالة اللبنانية لكونها وببساطة، لا تجلب للسوق أية سيولة بالعملات الأجنبية، ولكونها لا تحل مسألة الودائع ولا تؤمّن تمويلاً للاقتصاد. فيكفي تنظيراً وبيعاً للأوهام.
بالعودة إلى إعادة الهيكلة، سمعنا منذ خطة الحكومة السابقة التي سعت إلى تدمير القطاع المصرفي صيغاً وطروحات يصعب إحصاؤها. ومعظمها غير متماسك ويشوب بعضها سوء نية واضح لا يفيد التوقف عنده.
وحدها، وللحقيقة، الحكومة الحالية تقارب إعادة الهيكلة بذهنية من يريد أن يأكل عنباً لا أن يقتل الناطور. وقد سمعنا من رئيسها ونائب رئيسها ومن وزير اقتصادها طرحاً قابلاً للنقاش يقوم على مجموعة من المبادئ لا تزيد عن عدد أصابع اليد الخمسة ويمكن اختصارها، أدناه حسب فهمنا لها على النحو الآتي:
أولاً – تخفيض حجم مديونية الدولة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى نسبة لا تتعدى 100 % بما فيها الديون الجديدة التي سيوفرها صندوق النقد والمؤسسات المالية الدولية الأخرى. وهذا ما يُعرف بالآدبات المالية الدولية بشرط الاستدامة (Sustainability). وباعتقادنا أنه الموضوع الأصعب منالاً لأنه يفترض ضمناً تجفيف منابع الهدر والفساد لدى الطبقة السياسية الحاكمة ولدى أقوى مكوناتها.
ثانياً – توفير حماية لفئات المواطنين الأكثر حراجةً. ولهذه الحماية عدّة أوجه منها الشق الاجتماعي ومنها حماية صغار المودعين. على أن يحدد مفهوم صغار المودعين أو المبلغ المستهدف. وبنظرنا وللعدالة فإن المبلغ هو الذي يشمل أو يحمي تقريباً 80% من عدد المودعين. وللتذكير فإن مؤسسة ضمان الودائع جعلته عند 75 مليون ل.ل. أي 50 ألف دولار بسعر صرف قدره 1500 ل.ل. للدولار عند إقرار القانون.
ثالثاً – تحقيق توازن اقتصادي وتخطي الاختلالات الأساسية ما يتطلب من جهة أولى التقليص التدريجي للاستهلاك والإنفاق الإجمالي ويتطلب من جهة ثانية تخفيض عجز ميزان المدفوعات الجاري ومن جهة ثالثة إصدار قانون الكابيتال كونترول الذي يضع حدّاً لخروج الرساميل فيما يساهم في تقليص عجز ميزان المدفوعات الكلّي وتالياً نزيف العملات الصعبة إلى الخارج.
رابعاً – توحيد أسعار الصرف فلا يستمر البلد يعمل بستة أسعار تتراوح بين 1500 ل.ل. للدولار و24 ألفاً كما عند كتابة هذا المقال. وتستهدف السلطات المعنية كما يبدو من تصريح وزير الاقتصاد ومن بعض الأوساط الحكومية معدّلاً بحدود 10 آلاف إلى 12 ألف ل.ل. للدولار الواحد.
ويمكن تحقيق هكذا هدف إذا تمكنا من توحيد أسعار الصرف من جهة وضبطنا الاختلالات الماكرو اقتصادية خاصةً العجوزات الخارجية من جهة أخرى. ودونها عقبات من مراكز القرار المتسلطين على سلطة الدولة.
خامساً – إعادة هيكلة القطاع المصرفي، المركزي والتجاري حيث تتحدث الأوساط الحكومية على هذا الصعيد عن مجموعة كبيرة من الإجراءَات تهدف في مجملها إلى معالجة الفجوة المالية التي تكوَّنت أساساً لدى مصرف لبنان على امتداد الربع قرن الأخير. وهي تعود لثلاثة أسباب: الحفاظ على استقرار أسعار صرف العملة الوطنية تجاه الدولار. وقد نتجت من جهة ثانية جراء إقراض الدولة بالعملات الأجنبية لتمويل نفقاتها بما يقارب الـ 20 مليار دولار. وتعود فجوة مصرف لبنان أخيراً إلى توفيره التمويل بالعملات الأجنبية لاستيراد السلع والخدمات خصوصاً منها المحروقات والتي استنزفت مخزون العملات الأجنبية في البلد من خلال الأسعار المدعومة والكميات المهربة إلى سوريا. يبقى إن إعادة رسملة البنك المركزي هي أولاً وأخيراً مسؤولية الدولة اللبنانية عملاً بقانون النقد والتسليف، المادة 113 على سبيل المثال. فخزينة الدولة استفادت خلال العقود الثلاثة الأخيرة بما نسبَته 80% من الأرباح التي كان يحققها مصرف لبنان ولها وحدها أن تعيد تكوين رساميله. ويمكن للبنك المركزي خلافاً للمصارف أن يعمل برأسمال سلبي لعدّة سنوات.
ويتحدثون عن رأسمال سلبي قدره 15% من الناتج المحلي الإجمالي.
طبعاً، لا تُعفي إعادة رسملة مصرف لبنان من إعادة هيكلة القطاع المصرفي. فالمصارف مسؤولة عن محفظة قروضها وتسليفاتها للقطاعين العام والخاص. وستتحمل من مؤوناتها ومن رساميلها أية مبالغ متناسبة تفرضها السلطات وضمن قواعد عمل ومعايير الصناعة المصرفية العالمية. وطبعاً سيكون على المصارف إعادة تكوين الرساميل المطلوبة نظامياً. والمصارف غير القادرة تخرج عندها من السوق أو تندمج مع أخرى.
إيضاح إضافي بالنسبة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي يتمثّل بكون توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان المركزي ليست قروضاً كما هي الحال مع الدولة والقطاع الخاص. وليس في أدبيات صندوق النقد الدولي أو أية مؤسسة مالية دولية أخرى من يعتبر ودائع المصارف لدى البنوك المركزية ديوناً عليها أو على الدولة. فإذا كان الموضوع تسلطاً من أصحاب القرار وإذا كانت رساميل المصارف ستذوب جراء مسؤوليتها في الإقراض للدولة والقطاع الخاص ستعني إعادة الهيكلة بالضرورة اقتطاعاً كبيراً من ودائع الناس. نأمل أن تتجرأ السلطات في الإفصاح عنه. وعندها من المهم أن تستثنى ودائع صغار المودعين أي تلك التي يشملها ضمان الودائع وهي 75 مليون ل.ل. أي ما يعادل خمسين ألف دولار على سعر 1500 ل.ل. للدولار. وهذا المبلغ من ضمان الودائع يغطي ما يقارب 85% من عدد المودعين. وحسب الطروحات التي نسمعها من المسؤولين يصار عندها إلى تحميل الشرائح الأعلى من المودعين والودائع نسباً متفاوتة من الاقتطاع.
تتسم المبادئ العامة الخمسة التي تطرحها هذه الحكومة بالواقعية كونها تنطلق من توزيع منطقي للمسؤوليات على الدولة ومصرف لبنان والمصارف وكبار المودعين. كما أن هذه المبادئ ليست منفصلة الواحد عن الآخر بل هي في ترابط منطقي. فمعالجة الاختلالات الماكرو اقتصادية تشكِّل المدخل الصحيح لتوحيد واستقرار أسعار الصرف.
وتقليص حجم القطاع المالي، المركزي والتجاري، ليتناسب مع حجم الاقتصاد يعتبر تطوراً سليماً مع ضرورة أن نأخذ بالاعتبار اقتصار الأصول المالية في لبنان عملياً على الإيداع أو الإقراض المصرفي في غياب أسواق نشطة للأسهم والسندات ما يجعل حجماً للأصول المصرفي إلى الناتج المحلي بحدود 250% إلى 300% مقبولاً لسيولة الاقتصاد.
وتحتاج معالجة الاختلالات وتوحيد أسعار الصرف إلى إعادة تنشيط وانطلاق العجلة الاقتصادية. ويحتاج النشاط الاقتصادي بدوره للتمويل المصرفي. ويحتاج الأخير إلى إعادة رسملة المصارف واجتذاب المصارف للودائع خاصةً الـ Fresh. ولن يكون كل ذلك ممكناً بغياب الثقة والإصلاحات. هذا الترابط بين المنطلقات الخمسة لإعادة الهيكلة ليس شكلياً بل عضوياً وبدونه الافراط في أحداها خاصةً في استهداف القطاع المصرفي لا يعيد النمو للاقتصاد ولا فرص العمل للشباب.
خلاصة الكلام أن طروحات إعادة هيكلة القطاع المالي ستأتي حكماً على حساب مساهمي المصارف وكبار المودعين وفي مصلحة مصرف لبنان والدولة اللذين يخرجان بمكاسب بينما تخرج المصارف وزبائنها بمثالب. فالكلام الرسمي عن المسؤوليات لا يعني عملياً توزيعاً للفجوة المالية بالعدل وحسب المسؤوليات.