منذ خمسة أسابيع وحتى اليوم، لم تسجل ولادة أي طفل لبناني جديد، ولم يتوف أي مواطن في سجلات الإدارة اللبنانية ودوائر النفوس، لم يحصل أي عقد زواج، ولم يثبت أي طلاق، لم تسجل أي عملية بيع، أو شراء، أو نقل ملكية، أو حصر إرث، أو نقل بريد، فيما الاستيراد والتصدير من وإلى البلاد شبه متوقف تماما.
السبب خلف ذلك ليس عجائبيا، وإنما سابقة تسجل للمرة الأولى في تاريخ البلاد، حيث ينظم موظفو الإدارة العامة في لبنان، البالغ عددهم نحو 25 ألف موظف، إضرابا مفتوحا عن العمل منذ الثالث عشر من يونيو الماضي، يكاد يلامس العصيان العام، أدى إلى شلل كبير في البلاد لم يسلم منه أي قطاع أو مؤسسة، ويكاد لا يخلو بيت لبناني اليوم، من قصة عرقلة ومعاناة لأحد أفراده مع الدوائر والإدارات الرسمية اللبنانية.
ويطالب الموظفون في القطاع العام، بتصحيح أجورهم التي خسرت ما يناهز الـ 95% من قيمتها الشرائية بعد الانهيار الكبير للعملة اللبنانية، الذي رافق أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها البلاد في تاريخها. فمن كان راتبه يساوي 1000 دولار (مليون و500 ألف ليرة) بات اليوم يساوي 50 دولارا فقط، فيما الأسواق اللبنانية تتجه مسرعة نحو “الدولرة” الشاملة وتسير وفق سعر صرف 30 ألف ليرة لكل دولار، لكونها تعتمد بمعظم حاجاتها وخدماتها المقدمة على الاستيراد من الخارج.
ولأن أي تصحيح مرتقب في الأجور، لن يسد الفجوة الواقعة بين قيمة الرواتب الشرائية وتكاليف المعيشة المرتفعة، يطالب موظفو القطاع العام أيضا بمساعدات اجتماعية وتقديمات صحية وتربوية وغذائية تمكنهم من الصمود والاستمرار في هذه المرحلة الحرجة، إضافة إلى بدل نقل مناسب لحجم الارتفاع الحاصل في أسعار الوقود وتكلفة التنقل.
إلا أن الانهيار المالي الذي أصاب الليرة، ضرب في طريقه أيضا قيمة واردات خزينة الدولة بالعملة المحلية، التي تراجعت بدورها إلى مستويات قياسية، وانعكست عجزا وانهيارا دراماتيكيا في المؤسسات والإدارات العامة، وصل إلى حد فقدان الأوراق والقرطاسية وانقطاع الكهرباء لأيام عنها، ما وضع الحكومة اللبنانية أمام حائط مسدود لناحية القدرة على تلبية مطالب الموظفين.
الإضراب مستمر
ولا تزال الحكومة اللبنانية تتجنب اتخاذ قرار رفع أجور رسمي لموظفي القطاع العام، الذين يطالبون بـ 5 أضعاف الراتب الحالي كحد أدنى، لانعدام الواردات المالية الكافية، فضلا أن اللجوء إلى طبع العملة يمثل خيارا انتحاريا بالمعنى الاقتصادي، لما سيؤدي إليه من ارتفاع كبير في مستوى التضخم الواقع أصلا، ما سيعود ويأكل من القيمة الشرائية للرواتب بعد رفعها، لتعود الأمور إلى نقطة الصفر مع خسائر أكبر على المواطن اللبناني عموما.
وعوضا عن ذلك تحاول الحكومة اللبنانية استمالة الموظفين وإعادتهم إلى العمل من خلال زيادات مالية ورفع لبدلات التنقل، ومحفزات على شكل مساعدات مرحلية ومؤقتة، يرفضها الموظفون حتى الآن، لكونها لا تتناسب، وفق قولهم، مع حجم حاجات الموظفين ومتطلباتهم الحياتية والوظيفية.
وفي آخر محاولة حكومية يوم الإثنين الماضي، ناقشت اللجنة الوزارية المكلفة ادارة المرفق العام الحلول المُمكنة لأزمة إضراب القطاع العام، بهدف الوصول إلى الحل الأكثر ملاءمة للواقع الاقتصادي والمالي والنقدي.
اللجنة أقرّت دفع المساعدة الاجتماعية المقررة سابقا، والتي كانت تبلغ نصف راتب عن شهري مايو ويونيو، واستصدار مرسوم استثنائي يقضي بدفع مساعدة اجتماعية تعادل راتبا كاملا كل شهر ابتداء من شهر يوليو، كذلك إعطاء بدل نقل يومي عن الحضور الفعلي يبلغ 95 ألف ليرة (حوالي 3 دولارات)، على أن يحضر الموظفون لمدة يومين في الأسبوع تأمينا للواردات ومصالح الناس.
وقال رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي إن “تلبية المطالب دفعة واحدة أمر مستحيل ويتسبب بانهيار أوسع للأوضاع ونحن لسنا في هذا الوارد”، مشيرا إلى أن “الإضراب على أحقيته ومشروعيته ليس الحل المستدام لأنه يتسبب بشل كل مفاصل الدولة ووقف الإيرادات الكفيلة بتحسين الأوضاع الاجتماعية وزيادة الرواتب وبالتالي سنبقى في الدوامة ذاتها.”
إلا أن المقررات لم تلب الحد الأدنى من مطالب الموظفين الذي أصدروا بيانا أعلنوا فيه الاستمرار في إضرابهم المفتوح.
وقال بيان صادر عن الهيئة الادارية لرابطة موظفي الادارة العامة في لبنان إن “ما توصلت اليه اللجنة الوزارية لا يلبي الحد الادنى من المطالب، وامام هذا التجاهل المستمر والمستغرب لحقوق الموظفين، وفي ظل عجز الموظف عن بلوغ مركز عمله وعن تأمين أدنى مقومات الحياة الكريمة له ولعائلته تعلن الاستمرار في الاضراب المفتوح حتى تحقيق المطالب.”
اللبنانيون رهائن
وسط تلك الحلقة المفرغة، يقبع المواطن اللبناني محتجزا، بمعاملاته وأعماله وحاجاته، رهينة التجاذب بين القطاع العام والحكومة، دون أن يكون لهذا الحال حدا زمنيا أو حدودا في التصعيد، حيث تؤكد الحكومة من جهتها العجز التام عن تلبية مطالب الموظفين، الذين لن يعودوا بدورهم إلى أعمالهم في المرافق العامة قبل حل قضيتهم.
ومنذ نحو شهرين، رزق فادي سمعان بمولوده الأول، لكنه لم يتمكن من تسجيله حينها بسبب إغلاق جزئي للإدارات العامة، حان من بعدها سريعا موعد الإضراب التام، “ولم يولد إبني حتى اليوم بالنسبة إلى الدولة اللبناني” يقول فادي لموقع “الحرة” معبرا عن خشيته أن يمتد التأخير طويلا بعد تاريخ الولادة، حيث سيكون بعدها في وضع مخالف للقانون يضطر بعدها لتسجيل ولده عبر المحكمة ومن خلال حكم قضائي، لتبرير سبب تأخره، من ثم تحمل تكاليف أكبر وغرامات من أجل إتمام المعاملة، بحسب ما ينص القانون.
جوانا، مغتربة لبنانية، زارت البلاد مطلع الشهر الحالي من أجل الاستحصال بالدرجة الأولى على أوراق ثبوتية وشهادات رسمية مطلوبة منها لتتمكن من تقديمها في طلب حصولها على جنسية زوجها الفنزويلي. وفيما كانت قد حددت زيارتها إلى لبنان بأسبوعين، اضطرت لإلغاء رحلة عودتها وتمديد إقامتها أسبوعين آخرين، بانتظار عودة موظفي الإدارة العامة إلى أعمالهم.
تكشف جوانا في حديثها لموقع “الحرة” أنها وصلت إلى حد دفع رشاوي لموظفين ومخلصي معاملات، “لم يكن لدي مشكلة في الحصول على تلك الأوراق بأي ثمن متاح، كي لا اضطر إلى تحمل مشقة وتكاليف السفر مجددا إلى لبنان وتعطيل أعمالي، حتى أنني لجأت إلى الواسطة والتدخلات دون نتيجة، فالإضراب غالب على الجميع وطبيعة انجاز الأوراق في الإدارات الرسمية لا تتوقف عند مداومة الموظف المسؤول مباشرة، بل تحتاج لتصديق وتسجيل وسحب أوراق ثبوتية من دوائر وأقسام أخرى، وبالتالي لا حل قبل عودة جميع الموظفين عن إضرابهم.”
الأمر نفسه يتكرر مع آدم، الذي يخطط وزوجته الأميركية للانتقال من لبنان إلى الولايات المتحدة للعيش فيها، وهو ما يتطلب منه معاملات وأوراق ثبوتية تثبت الزواج في السجلات الرسمية اللبنانية للحصول على تأشيرة خاصة بالأزواج تسمح له بدخول الأراضي الأميركية.
مضى 8 أشهر على زواج آدم رسميا، “وحتى الآن لا زلت أعزبا في سجلات النفوس اللبنانية”، وفق ما يؤكد، ويضيف “لا يمكنني سحب أي أوراق ثبوتية تثبت الزواج كإخراج القيد العائلي أو الفردي، بسبب تأخر في وصول معاملتي المرسلة من وزارة الداخلية عبر البريد إلى دائرة النفوس في مسقط رأسي، وبالتالي حتى اليوم لم أتمكن من تقديم طلب الحصول على التأشيرة، التي عليّ الانتظار من بعدها نحو سنة لوصولها، كل ذلك نتيجة الإضراب العام حاليا، والإضراب الجزئي قبله، حياتي كلها متوقفة إلى أجل غير معلوم.”
وعلى مدى أعوام الأزمة المالية التي ضربت لبنان، سبق لموظفي القطاع العام أن خاضوا إضرابات جزئية قبل منتصف يونيو الماضي، وصلت في النهاية إلى حد المداومة ليوم واحد في الأسبوع فقط، وقبلها شهدت الدوائر العامة إقفالا قسريا طويلا بنتيجة جائحة كورونا، كذلك الأمر إبان الاحتجاجات التي شهدتها البلاد بين عامي 2019 و2020، ما انعكس تأخيرا كبيرا تكدست معه معاملات المواطنين وتأخر إنجازها.
وفي هذا السياق يرى وزير العمل في الحكومة اللبنانية مصطفى بيرم أن القصة “لم تعد قصة مطالب، بل باتت ابتزاز للناس، وحجز لمصالحهم، وضرب للإدارة العامة، لا بل يساهمون في انهيار البلاد، ولو أن المطالب مشروعة فإن الأسلوب بات مشبوها، ومن حق الناس أن ترى نفسها رهينة في قبضة موظفي القطاع العام، فهم يسجنون الناس ويغلقون المرافق العامة في وجههم بلا أدنى مرونة على الإطلاق.”
تعميق للأزمات
ويعبر الوزير اللبناني القادم إلى الوزارة من قلب القطاع العام الذي كان موظفا فيه، أنه يشعر تماما بحال الموظفين ويصادق على أحقية مطالبهم، لكنه في المقابل يعتبر في حديثه لموقع “الحرة” أن الاستمرار بفتح الإضراب “أصبح ضررا لا يحتمل وغير مقبول وغير مبرر على الإطلاق، لأننا قمنا بكل ما نستطيع وبما هو متاح من واردات حاليا، في انتظار إقرار الموازنة للعام 2022، والتي يرتفع معها حجم الواردات إلى الخزينة اللبنانية.”
وكان الوزير بيرم قد لعب دورا وسيطاً منذ بداية الإضراب، بين الموظفين والحكومة اللبنانية، إلا أنه انسحب بعدما اتهم من ناحية الموظفين بالتفريط في حقوقهم والالتفاف على مطالبهم.
ويضيف بيرم “الاستمرار في الإضراب، تشويه لسمعة الموظف في القطاع العام، وضرب لمصالح الناس، وإساءة كبيرة جدا لكل تضحيات الموظفين، وأصبح أمرا كبير الضرر، على الجميع بمن فيهم الموظف نفسه، يبتزون الناس والدولة بمصالحها وهذا معيب وقلة مسؤولية ومساهمة في الانهيار.”
وينذر الإضراب العام بتعميق أكبر للأزمات التي تعيشها البلاد حاليا، حيث سبق أن حذر موزعو المحروقات من أن استمرار الإضراب سيؤدي إلى وقف استيراد بواخر المحروقات كما ستتوقف الإجازات، ما ينذر بازدياد حدة أزمة محروقات في البلد.
من جانبها حذّرت لجنة الأمن الغذائي في الهيئات الاقتصادية اللبنانية من تداعيات الإضراب السلبية على الأمن الغذائي “نتيجة توقف إخراج مئات المستوعبات المحملة بالمواد الغذائية والمواد الأولية المستوردة لصالح المصانع الغذائية في لبنان، والمكدسة في باحات مرفأ بيروت نتيجة عدم إنجاز معاملاتها في الوزرات المعنية”.
وطالبت باتخاذ إجراءات استثنائية لإخراج المستوعبات وتسهيل إخراج مستوعبات مماثلة عند وصولها إلى مرفأ بيروت، لضمان استمرار تدفق المواد الغذائية إلى السوق اللبنانية والمواد الأولية إلى المصانع الغذائية اللذين يشكلان حاجة ملحة لا يمكن تأخيرها تحت أي سبب كان”.
بدورها حذرت نقابة مستوردي السيارات المستعملة في لبنان من أنّ قطاع السيارات لا يزال يواجه المزيد من التحديات والصعوبات “تضعه على شفير الانهيار الشامل”، مشيرا إلى أن “إضراب موظفي الإدارة العامة وما نتج منه من إقفال للنافعات زاد من تدهور قطاع السيارات الذي وصل الى الحضيض”.
وتفاجأ المزارعون برفض موظفي وزارة الزراعة إعطاء شهادات منشأ التي يتم بموجبها تصدير بضائعهم، إضافة إلى رفضهم التوقيع على البيانات التي تقدم إلى المرافق العامة أي المرفأ والمطار والمعابر البرية الحدودية مع سوريا.
ويهدد الإضراب أيضا الحركة في مطار بيروت كما هو الحال في المرفأ وغيرها من المرافق اللبنانية العامة، وذلك بعد انضمام مزيد من موظفي القطاع العام إلى الإضراب تحت سقف المطالب نفسها، ما يهدد بتعطيل كامل للبلاد.
وأعلن موظفو مصلحة الأرصاد الجوية التوقف عن العمل بدءا من 18 يوليو “حتى تأمين الحد الأدنى من العيش والاستمرارية”، لا سيما أنهم يعملون لعدد ساعات إضافية ويتقاضون رواتب لا تزيد على 80 دولاراً.
وسبق لموظفي الوكالة الوطنية للإعلام أن أعلنوا قبل أيام الإضراب المفتوح عن العمل إلى حين تحقيق مطالبهم وتسوية رواتبهم، وانضم إليهم اليوم متعاقدي شراء الخدمات في الوكالة، معلنين الإضراب عن العمل، “لأننا كغيرنا من المواطنين اللبنانيين نجاهد ليلا ونهارا للحصول على ابسط مقومات العيش في ظل الازمة الاقتصادية الخانقة التي حاصرتنا وشارفت على المسّ بكراماتنا”. مطالبين بتعديل رواتبهم وتنظيم مواعيد دفعها، إذ “لا يمكن أن ينتظر الموظف عاما كاملا للحصول على اتعابه في ظل الضائقة الاقتصادية والمعيشية القاسية”.
ويضم القطاع العام إضافة إلى الوزارات، مستشفيات حكومية ومدارس رسمية إضافة إلى الجامعة اللبنانية، يعمل فيه نحو 250 ألف موظف، بين أجير ومتعاقد وموظف ثابت، كانوا يمثلون عماد الطبقة الوسطى في لبنان قبل اندلاع الأزمة الاقتصادي، ليصبحوا اليوم في عداد فقراء البلاد.
كم ستكفي الـ 100 دولار؟
رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة، نوال نصر، تكشف في حديثها لموقع “الحرة” أن المطروح حاليا من ناحية الحكومة هو مساعدة راتب بحدها الأدنى مليونين ليرة تشمل ما يقارب 80% من موظفي الإدارة العامة، الذين ينالون معاشات من بين الأدنى في القطاع العام، ما يعني أن 80% من الموظفين الذين يتقاضون مثلا مليون ليرة، سينالون مليونين إضافيين كمساعدة، ولكن بالمجموع العام 3 ملايين ليرة تساوي اليوم 100 دولار فقط لا أكثر، فيما كل المتطلبات والمدفوعات في البلد تعود في سعرها إلى صرف الدولار، فكم ستكفي الـ 100 دولار اليوم؟”
وتضيف “هذا الراتب قد لا يكفي ثمنا لربطة خبز يومية ووجبة طعام. وبالتالي كل العروض التي قدمت غير مقبول طرحها لكونها لم تلامس الحد الأدنى المطلوب. ولم نتحدث بعد عن الطبابة والاستشفاء وكيفية دعم الموظف في هذا السياق، خاصة وأن الموظف في القطاع العام محروم من الدخول أو إدخال أحد أفراد عائلته إلى المستشفى في ظل ارتفاع هائل في التكاليف الصحية، وهذه أبسط حقوق الحياة، وبالتالي موظف القطاع العام اليوم مكشوف صحيا، وهذه المشكلة من مسؤولية الدولة أن تجد لها حلا، خاصة أن الموظف اليوم يعمل تقريبا من دون أجر.
وتسأل نصر “كيف نعلّم أولادنا في ظل الأقساط المطروحة حاليا في المدارس الخاصة والمطلوبة بالدولار؟ وبدلا من أن تدعمنا الدولة وتدعم تعليم أبناء الموظفين، فهي تدعم المدارس الخاصة لتحافظ على استمراريتها”، لافتة إلى أن الموظف اليوم في الإدارة العامة “عاجز حتى عن تأمين تغذية سليمة لأولاده، فأين الموظف من كل حقوقه ومعايير الحياة الكريمة؟ الموظف اليوم يعيش قهرا ماديا وجسديا ومعنويا.”
أما المطلب الرئيسي، والمسؤول عن حضور الموظف إلى العمل هو أجرة بدل التنقل، تقول نصر، “الحكومة تغنت برفعها لبدلات النقل إلى حد الـ95 ألف ليرة، وهذا قد يناسب فئة من الموظفين الذين يعملون قرب منازلهم أو في القرية والمدينة نفسها، ولكن حجما كبيرا من موظفي الإدارات العامة يأتون من خارج مناطق عملهم، وبعضهم يتنقل من محافظة إلى أخرى، بتكلفة نقل تتجاوز بأضعاف المبلغ المرصود حاليا، هناك من يتكلف 300 و400 ألف ليرة ذهابا وإيابا، كمعدل وسطي، أي أن تكلفة التنقل قد تجاوزت قيمة راتبه، فما قيمة العمل في هذه الحالة؟”
إضراب قسري أم “دلع”؟
وفي معرض ردها على اتهام الموظفين بتعطيل حياة الناس وأخذهم رهينة، تقول نصر إن “هؤلاء الناس هم نحن أيضا، نحن لدينا أوراق ومعاملات عالقة بسبب الإضراب، لدينا أهل وأبناء وجيران واقارب متوقفة أعمالهم بسبب الإضراب أيضا، ولكن نحن وصلنا إلى طريق مسدود، وأعلنا أن هذا الإضراب قسري، من أين نؤمن تكاليف الانتقال إلى العمل؟ الموظف العاجز عن تأمين لقمة عيشه كيف يطلب منه تأمين مصاريف الوظيفة؟ الموظف عاجز تماما لا يمكن الطلب منه أن يضحي أكثر.”
وتسأل نصر “لماذا لا يصوب المواطن البوصلة بالاتجاه الحقيقي للمسؤولية الواقعة على الدولة؟ هل يمكننا أن نسأل كل مواطن يقول إننا نعرقل حياته، ما هو عمله وأي أجر يتقاضاه وبأي عملة؟ هل الناس في المقابل راضية بأوضاعنا الحالية التي نعيش فيها؟ التفاحة التي نشتريها اليوم من السوق تباع وفق سعر الدولار، أي سلعة، أو خدمة أو حبة دواء أو لوح شوكولا في البلد يلحق بسعر الدولار والكل راضٍ، لا أحد يبيع الموظف حاجاته وفق سعر الـ1500 ليرة الذي يحتسب راتبه على أساسه، فكيف يطلبون منا العمل بهذا الراتب والقبول به؟”
من جانبه لا يوافق وزير العمل على وصف إضراب الموظفين بأنه إضراب “قسري”، بل يصفه بـ”الغنج”، ويسأل “هل هناك دولة في العالم تطلب من موظفيها المداومة ليومين فقط بالأسبوع مقابل تعطيل 5 أيام؟ أصبح الأمر دلع وقلة مسؤولية، ما ذنب المواطن اليوم لتتوقف معاملاته؟ على من يقع ضرر الإضراب؟ أليس على الناس وخزينة الدولة؟” كاشفا أن الدولة اللبنانية تخسر 12 مليار ليرة يوميا بسبب الإضراب.
ويلجأ كثير من موظفي القطاع العام والأجهزة الأمنية والعسكرية إلى الاستفادة من تخفيض ساعات العامل ومراعاة أوضاعهم ليعملوا في أعمال أخرى جانبية تؤمن لهم مدخولاً إضافياً في ظل معرفة وموافقة ضمنية من ناحية السلطات اللبنانية والرقابية.
وعن قيمة بدلات النقل وتجاوزها لقيمة الرواتب يصف بيرم الأرقام المقدمة من قبل نصر بـ “المبالغ بها جدا، ويكفي ضحك على بعضنا البعض، هل سمعت عن أحد دفع 300 الف ليرة في الباص ليتوجه من صيدا او البقاع او الشمال إلى بيروت؟ في أيام الإضراب هل يقنعني الموظفون أنهم يلزمون منازلهم ولا يخرجون بسياراتهم؟ من يملأ المسابح والمطاعم في البلد؟ هذا غش بكل صراحة.”
انفصال عن الواقع
يتبادل طرفا الأزمة اتهامات الانفصال عن الواقع في مقاربة القضية، فيرى الموظفون أن الحكومة تطرح حلولا بعيدة عن حقيقة وحجم معاناتهم والواقع الذي يعيشونه، فيما يسأل وزير العمل “من أين نحضر لهم الأموال؟ الدولة اللبنانية معروف وضعها، والموازنة الجديدة لم تقر بعد، البلد منقسم والقضاء منقسم ولا حكومة جديدة بعد، ويطالبون بأمور وكأنهم منفصلين عن الواقع الذي نعيشه في البلاد.”
كلام بيرم جاء ردا على مطالبات رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة، بتأمين الإيرادات اللازمة لتمويل رفع الرواتب من خلال وقف الهدر الذي يفتك بالموازنات الحكومية. وتضرب على ذلك أمثلة كثيرة تبدأ من الإعفاءات الجمركية إلى البنود والتسميات المبهمة في الموازنات إضافة إلى إيجارات الدولة والمرافق الحكومية ورسوم المطار وغيرها من “المزاريب” التي ترى أن إغلاقها من شأنه أن يؤمن حاجات الموظفين.
وتسأل “كيف لنا أن نقتنع ونحن نرى أمامنا الهدر الهائل في الموازنات التي لا تتشدد إلا على حساب الموظف؟”، وتتابع معتبرة أن الهدر هو الذي تسبب ولا يزال بالانهيار، وليس رفع أجور القطاع العام أو سلسلة الرتب والرواتب، “أليس من المعيب أن يحملوا راتب الموظف مسؤولية الانهيار والتضخم والهدر في ظل كل ذلك؟ التضخم الحقيقي هو في جوع الناس وحاجتها وعجز الموظفين.”
نصر تشدد على أن الانهيار الاقتصادي ناتج عن سوء التقدير والسياسات المالية المعتمدة، وليس ذنب الموظف ومن غير المقبول تحميله تبعاته، وتضيف “نحن ضحايا أيضا، من تسبب بالانهيار هو الذي لا يزال حتى اليوم يتصرف بأموال الناس المودعة في المصارف، ويهدر منها يوماً ما يقارب 200 مليار ليرة في اليوم، وهي عبارة عن خسائر مصرف لبنان المركزي في سياق دعمه لسعر منصة صيرفة، لإرضاء المصارف وكبار المودعين المستفيدين في هذه اللعبة.”
من جانبه يرى بيرم أن الهدر مشكلة تاريخية في لبنان، “لا يمكن حلها بين ليلة وضحاها وتحت ضغط الإضراب عن العمل”، متسائلا “هل يتوقف الهدر مع الإضراب المفتوح؟ ما هكذا يعالج الهدر، المعالجة هي مسار مستدام ونضال طويل، أما اليوم فليس هناك أقلام وأوراق في الإدارات، منذ 6 أشهر وزارتي لم تتسلم مادة المازوت من الدولة، بأي زمن يعيش الموظفون؟”
ويضيف “ملفات الهدر شائكة وعمرها عشرات السنين، قضايا تحتاج قرارات وتعديلات قانونية وسن قوانين، والعملية ليست بالبسيطة، نعم هناك هدر في الدولة، ومطالبهم محقة والإضاءة على الهدر والفساد محق ومثمر، ولكن اليوم الوضع في مكان آخر، هل يعقل أن نقضي على مصالح المواطنين ونشل البلاد؟ فليتقدموا بمطالب مدروسة عبر وفد منهم، دون عرقلة مصالح الناس وإسقاط الدولة وقطع إيراداتها.”
استهداف للقطاع العام؟
يتفق كل من وزير العمل ورئيسة رابطة الموظفين في الإدارة العامة، على أن القطاع العام في لبنان مستهدفاً، لكن كل منهما ينظر إلى الاستهداف من زاويته الخاصة.
ويعتمد لبنان في خطة تعافيه الحكومية على مساعدة من صندوق النقد الدولي، استشارياً ومالياً، وذلك مقابل شروط يضعها الصندوق لضمان جدوى تلك المساعدات المقدمة إلى لبنان، ومن بين الشروط المعروضة، إعادة هيكلة القطاع العام الذي تستنزف رواتبه نحو ثلث الموازنات الحكومية الموضوعة سنوياً.
وفي هذا السياق ترى نصر أن التعامل الجاري حالياً مع موظفي القطاع العام، يأتي في سياق ما وصفته “تهشيل” الموظفين من القطاع العام، تحقيقا لرغبة صندوق النقد، وتضيف أن الإدارة العامة تعاني من شغور ما بين 70% و80%، هذا إذا ما لم نحتسب وظائف “التنفيعات” التي هبطت على الإدارة العامة، وبالتالي الإدارة العامة آخر ما يتطلب “ترشيق” كما يصفونها، في حين يضرب الكادر البشري الكفوء العامل في الإدارة العامة”، وتسأل أين سيذهبون بهؤلاء الموظفين؟ هل القطاع الخاص قادر على استيعابهم أم انهم سيصبحون بلا عمل؟”
من ناحيته يعبر وزير العمل عن شبهة باتت لديه أن هناك من يريد “تدمير القطاع العام من داخله”، ويرى أن ما يقوم به الموظفون هو الذريعة الأمثل لصندوق النقد الدولي، من خلال تعميم صورة الموظف غير المنتج في القطاع العام، والذي يمثل عبئاً لا حاجة إليه.
ويتابع “اسألوا الناس عن سمعة موظفي الدولة اليوم، موظفون لا يعملون ويتقاضون رواتب من منازلهم، الناس تتحدث عنهم كذلك، شوهوا سمعة الإدارة، لا إنتاجية ولا عمل وبعضهم لا يستحق أن يكون في الإدارة العامة.”
وتمثل التوظيفات العشوائية التي شهدها القطاع العام منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اندلاع الأزمة، واحدة من أساسات المشكلة القائمة في القطاع العام، حيث لم تراع تلك التوظيفات ذات الخلفية السياسية والطائفية والتي جرت آخر فصولها وفق حسابات انتخابية، دون اعتبار للكفاءات أو حاجات الإدارات العامة وإنما اثقلت موازنات الرواتب بزيادات لم تنعكس إنتاجية ولم تلب حاجات القطاع العام.
لا رواتب لهذا الشهر
تؤكد نصر في ختام حديثها على أن الإضراب المفتوح قائم إلى حين الحل، “فالعودة إلى العمل بهذه الظروف غير مقدور عليها وبالتالي إن لم يستجيبوا لمطالبنا سيبقى الإضراب قائما في القطاع العام، ما من خيار آخر وسط العجز التام الذي يعاني منه الموظف.”
وكان رؤساء الوحدات في مديرية المالية العامة قد اتخذوا خطوات تصعيدية، حيث قرروا عدم العودة إلى العمل إلا بعد تأمين الحد الأدنى اللازم والفوري لدفع الرواتب، ما يعني أن العمل بالمالية العامة توقف، وهو ما ينعكس على جميع معاملات الدولة، خاصة تلك التي تعنى بصرف الرواتب للموظفين والموافقات على الضرائب والرسوم، بالإضافة إلى الموافقات على معاملات التصدير والاستيراد.”
هذا الواقع سينعكس خطرا على رواتب شهر أغسطس المقبل، وفق ما يؤكد وزير العمل، الذي ينبه إلى أن الموظفين قد لا يتمكنون من تقاضي رواتبهم، وبالحد الأدنى سيكون هناك تأخيرا لنحو 15 يوما في صرف المعاشات”، ويسأل “من يكون المتضرر هنا؟ وعلى من الضغط الذي يمارسونه؟”
بالخلاصة، يختم بيرم، وقع أمس رئيس الجمهورية على المراسيم التي أقرتها الحكومة، “وفي نهاية الأمر من سيحضر إلى الدوام من الموظفين سيستفيد من التقديمات، ومن لا يحضر فهو حر، ولكن الإدارة العامة ستعمل، ومصالح الناس سوف تتيسر، ولن أسمح بسقوط القطاع العام بسبب قلة مسؤولية البعض.”