ذكرى الرئيس الشهيد رفيق الحريري أعادت اللبنانيين إلى مشاهد أيام الإنجازات والإعمار، التي كانت تُسابق الزمن، وجدّدت صورة لبنان في محيطه العربي، وفي المحافل الدولية، بعد خمس عشرة سنة من الحروب العبثية، التي مازالت نُدوب جروحاتها ظاهرة للعيان.
مع جريمة إغتيال رفيق الحريري في ذلك اليوم الأسود، ١٤ شباط ٢٠٠٥، إنتكست مسيرة النهوض والتحديث بإصابة مباشرة في رأسها، وبدأ البلد رحلة التراجع على مختلف المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وأمعنت الخلافات والإنقسامات في تعطيل دور دولة المؤسسات، وضربت أسس العلاقات الخارجية الفاعلة مع العالم، وخاصة مع الأشقاء العرب، إلى أن وصلنا إلى ما نحن به اليوم من عزلة عربية وخارجية، وإفلاس داخلي.
غير أن اللافت في فعاليات الذكرى ١٩ لغياب الرئيس الشهيد، كان اللغط الذي أحاط بمجيء الرئيس سعد الحريري إلى بيروت، والتصريحات التي سبقت وصوله مبشّرة بعودته للبقاء في البلد، وممارسة دوره السياسي، ثم الشعارات التي رُفعت بالمناسبة، ومعظمها ركّز على المطالبة بالعودة الدائمة.
لكن إشكالية إختلاط التمنيات الشعبية، العاطفية والعفوية، مع الحملات الممنهجة والتحركات المنظَّمة، أدّت إلى «تكبير الحجر»، وتضخيم الإشاعات الوهمية التي نُسجت حول الزيارة والبقاء في بيروت، والتي وضعت مغادرته بيروت حدّاً فاصلاً، بين الزيارة المؤقتة والعودة الدائمة.
وقد حرص الحريري منذ اليوم الأول لوصوله إلى بيروت، على نفي البقاء في البلد، بعبارته الديبلوماسية المنمّقة: «كل شي بوقته حلو». وعندما راح البعض يُروِّج لتفسيرات مخالفة لما كان يقصده من هذه العبارة، إضطر رئيس تيار المستقبل إلى الإعلان في مقابلة خاصة وسريعة مع القناة السعودية «الحدث»، عن عدم عودته حالياً إلى لبنان، لأن الظروف والأوضاع غير مناسبة، ولم تتغيّر المعطيات التي دفعته إلى تعليق نشاطه السياسي.
ثمة محطتان في «إسبوع الحريرية السياسية» لا بد من التوقف عندهما: الأولى سياسية، والأخرى ذات طابع شعبي.
في المحطة الأولى برزت الحركة السياسية الناشطة في بيت الوسط، حيث تقاطرت وفود من معظم الكتل النيابية والحزبية للقاء رئيس الحكومة السابق، الذي تحمّل عن جميع الأطراف الأخرى، من حلفاء وخصوم، تداعيات وكوارث العهد العوني، الذي أوصل البلاد والعباد إلى جهنم الإنهيارات المستمرة، وأدّى إلى تعليق نشاطه السياسي، والإقامة في الخارج، بعد فشل التسوية التي حملت العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، وعدم مراعاة إلتزامات الشراكة من قبل الفريق العوني، وإنكاره شرعية المطالب الإصلاحية، التي رفعتها إنتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩.
وأظهرت هذه اللقاءات مدى تصلّب الأفرقاء السياسيين في مواقفهم من الإستحقاق الرئاسي، وحجم الخلافات المهيمنة على المنظومة السياسية، في ظل القطيعة غير المسبوقة بين المرجعيات السياسية، والتي تقفل الأبواب أمام أي حل أو تسوية لتجاوز المآزق الراهنة، وما يتخبط به البلد من أزمات، وما يُحيق به من مخاطر على إيقاع التهديدات الإسرائيلية شبه اليومية ضد لبنان.
المحطة الثانية ظهرت في الحشد الشعبي الكبير حول ضريح الرئيس الشهيد في ساحة الشهداء في قلب بيروت، وصمود الآلاف القادمين من مختلف المناطق تحت الأمطار، لإحياء ذكرى «الزعيم» الذي شكّل ظاهرة نادرة في التاريخ الإستقلالي.
ولكن غياب المشاركة الشعبية للأحزاب المسيحية وقوى ١٤ آذار، كانت موضع عتب وإنتقاد من قبل جمهور الحريرية السياسية، رغم وجود وفد قيادي من حزب الكتائب مثلاً، لأن ذكرى الرئيس الشهيد تبقى فوق مستوى التباينات والخلافات السياسية، التي إستجدت لاحقاً، بين أطراف ١٤ آذار، وخاصة بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية، وآثارها الكارثية التي أدت إليها، بما في ذلك تفكيك قواعد تحالف ١٤ آذار، وإضعاف جبهة «الإستقلاليين والسياديين».
إغتيال الرئيس رفيق الحريري قلب المعادلة الداخلية رأساً على عقب، على عكس ما توقع مخططو الجريمة النكراء. فكان أن تم الإفراج عن رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، وعاد العماد ميشال عون من المنفى، بعد إستقالة الحكومة الكرامية بموقف وطني مشهود لرئيسها في مجلس النواب، وخروج الجيش السوري في لبنان، وتولي قوى ١٤ آذار السلطة.
الا يستحق «بطل الإستقلال» الثاني المشاركة من الشركاء في الوطن في إحياء ذكراه؟ أم أن نغمة الفيدرالية والسياسات الإنعزالية عادت من جديد إلى الساحة المسيحية؟
لقد نسي أحباء رفيق الحريري وجمهوره العريض، الكثير من حزنهم ولوعتهم على الرئيس الشهيد، عندما شاهدوا الراهبات يضعن شموع الرجاء على ضريحه، وعندما إلتقوا مع إخوانهم في الوطن والمصير يوم ١٤ آذار في تظاهرة مليونية تاريخية، كرست المصالحة الوطنية على مستوى القواعد الشعبية، بعد تحقيقها سياسياً عبر إتفاق الطائف، وأطلقت أكبر جبهة وطنية شاملة عرفها لبنان في مسيرته الإستقلالية.
أين المشاركة المسيحية في ذكرى رفيق الحريري؟
سؤال يخرج من رحم الحرص على الوحدة الوطنية، والتلاحم الكامل في السراء والضراء بين اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، والذي كان يحرص عليه الرئيس الشهيد، وقد يكون في طليعة الأهداف الوطنية الكبيرة التي دفع حياته ثمناً لها.