تعيش السجون اللبنانية مأزقاً مزمناً يتجاوز الحدود الإنسانية والقانونية، حيث تتفاقم أزمة الاكتظاظ الكارثي إلى نسب مخيفة، ما يخلق بيئة مروّعة ببطء رهيب في المحاكمات، وتجاهل شبه كامل لحقوق الموقوفين، الذين يقبع أكثر من 80% منهم دون محاكمات فعلية.تتكشّف في هذا المشهد، أزمة القضاء المنهك، الذي يستمر في خضوعه للمحاصصة والطائفية، ويرفض التعامل بجديّة مع ملفات التعذيب أو حتى المحاسبة، ما يعزز دائرة الظلم، والانتقام، والتهم المُركبة التي تحرم آلافا من أبسط حقوق العدالة والإنصاف. وفي غياب إرادة سياسية حقيقية لحل الأزمة.
في جميع الأحوال، الجميع متفق على ان هذه الأزمة ليست مجرد إخفاق إداري، بل هي فشل بنيوي يهدّد مستقبل الدولة والقضاء، ويضع ضغوطاً هائلة على النسيج الاجتماعي والحقوقي في لبنان، مما يستدعي تحرّكاً عاجلاً وحقيقياً، لا الشعارات الانتخابية الفارغة، أو وعوداً مكررة بدون نتائج.
المعلومات المتداولة غير دقيقة
وبما لا يدع مجالا للشك، يكشف مصدر أمني رفيع لـ «اللواء» أن ما يتم تداوله بشأن وفاة السجين ع. ع. هو غير دقيق إطلاقا، مؤكدا أن السجين المذكور يعاني من وضع صحي خاص، ويتم إدخاله إلى المستشفى بشكل دوري، مشدّدا على أن الأدوية متوفرة وأنه يحصل على علاجه بشكل منتظم. مشيرا إلى أن «سجن رومية، كسائر السجون، يخضع لمتابعة من منظمات دولية كالصليب الأحمر وغيرها، ما يجعل من المستبعد تماما وجود أي تهاون في متابعة أوضاع السجناء الصحية أو الإنسانية».
ويضيف: «السجن، بطبيعته، يظل سجنا، وليس فندقاً من فئة خمس نجوم. لكن هناك من يسعى لتصوير الوضع بصورة سوداوية، خصوصا في سجن رومية».ويوضح أن «القضاء يتابع أي قضية تُثار إعلاميا أو قانونيا، وفي حال وجود أي تقصير، يتم إحالة المعني إلى القضاء المختص». ويؤكد أن: «السجناء يحصلون على أدويتهم، ولا يوجد تفشٍ للأمراض المعدية مثل الجرب، أما الادواء المزمنة كالسكري، والضغط، تُعدّ من أولويات قوى الأمن الداخلي، ويتم التعامل معها بجديّة». مشدّدا على أن «الأدوية في سجن رومية متوفرة أحيانا بشكل أفضل مما هي عليه خارج السجن».
أما في ما يتعلق بالتحقيقات في حوادث الوفاة التي حصلت في سجن رومية قبل نحو سنتين أو أكثر، خلال ولاية وزير الداخلية السابق بسام المولوي، ينفي المصدر الأمني «وجود أي معلومات لديه حولها»، لافتا إلى أن «بعض هذه القضايا تقع ضمن صلاحية القضاء، وبالتالي فإن وزارة العدل هي الجهة المعنية مباشرة بهذه الملفات».
واقع الزنزانات أولوية!
من جانبه، يقول رئيس لجنة السجون في نقابة المحامين في بيروت، المحامي جوزيف عيد: «نعلم أن المشكلة الأكبر داخل السجون اللبنانية هي الاكتظاظ الكارثي الذي بلغت نسبته أكثر من 340%. وينتج من ذلك مشكلات صحية وغذائية وأمنية، بالإضافة إلى بطء سير المحاكمات وعدم تطبيق أصول المحاكمات الجزائية فيما يخص إخلاءات السبيل. أضيف إلى ذلك أن نسبة كبيرة من الموقوفين، التي بلغت 83%، لم تتم محاكمتهم، وهو الأمر الذي دفع الحكومة الحالية إلى وضع هذه الأزمة على سلم الأولويات، بجهد مشترك من وزيري الداخلية والعدل ونقابتي المحامين في بيروت والشمال».ويكشف لـ «اللواء» أن «الرأي استقر على تفعيل محكمة سجن رومية بهدف تسريع المحاكمات الجزائية، خاصة في نطاق محاكم الجنايات في جبل لبنان، حيث النسبة الأكبر من الموقوفين في سجن رومية. وقد تذللت العقبات أمام المحامين بصورة جيدة جدا، وكذلك أمام القضاة والموظفين، بما يشمل طريقة نقل الملفات وإحضار الموقوفين».
ويؤكد أن «النتائج إيجابية جدا، حيث لوحظ سرعة البت في الملفات، وعقد الجلسات، والإحالة إلى الأحكام، علما بأن هذه خطوة أولية نحو خطة متكاملة لإصلاح السجون، واستقلالية القضاء وتفعيله، حتى الوصول إلى حل نهائي لهذه المشكلة المتفاقمة. وهذا الأمر ينطبق أيضا على الموقوفين السوريين، مع العلم أن أي حل لسجناء سوريا يجب أن يكون عبر القضاء، وفقا للقوانين اللبنانية، والدولة عبر تصاريح وزير العدل إيجابية بهذا الاتجاه».
السجون واجهة الدولة المتحضّرة.. فهل دولتنا كذلك؟
من جهتها، تعتبر المحامية ماريانا برّو ان: «وضع السجون مرتبط بوضع الدولة والقضاء، ما دامت الدولة ضعيفة، وكل ولاية جديدة تُطلق وعودا لا تتحقق، ولا نرى إلّا الشعارات. كما أن القضاء لا يزال خاضعا للمحاصصة والطائفية، ولا توجد محاسبة فعلية لبعض القضاة الذين لا يطبقون القوانين، وخصوصا المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي تحدد مدة التوقيف في الجناية والجنحة».
قضاة ينتهكون التشريعات!
وتوضح لـ «اللواء»: «يؤدي خرق القانون إلى تدهور الحالة النفسية والصحية والعقلية للموقوفين، نتيجة وجودهم في أماكن لا تصلح حتى للحيوانات، حيث تغيب النظافة، وتنتشر الأمراض الجلدية، ويعمّ الاكتظاظ داخل الغرفة الواحدة. كما لا تتوفر أطعمة يُشرف على نظافتها مختصون، بل بالعكس، تُسجل حالات وجود حشرات في الطعام، وغالبية السجناء يضطرون إلى شراء طعامهم بأنفسهم. كذلك، لا توجد تهوية، وفي فصل الصيف تنتشر الروائح الكريهة، ويُصاب بعض الموقوفين بأمراض، وتتفشى العدوى. كما يعاني الموقوفون من غياب الأطباء، وهي أزمة مستمرة منذ سنوات، حتى يكاد ينعدم وجود طبيب، ما أدى إلى ارتفاع حالات الوفاة نتيجة الإهمال الطبي».
وتتطرّق إلى «أخر حادثة انتحار، وهي حالة السجين الذي أُبلغت عائلته بانتحاره بسبب عدم حصوله على الدواء، وما تبعها من بلبلة، في ظل نفي قوى الأمن وقوع انتحاره. بالرغم من ذلك، تبقى حقيقة ثابتة، وهي أن القضاء لا يسعى الى حل الأزمة، بل يزداد عنادا في ممارسة الظلم، وانعدام الرأفة والرحمة، وعدم التوسّع في دراسة الملفات، وتحويل العديد من الأبرياء إلى متهمين، دون الاكتراث لمدى صحة الاتهامات. مؤكدة ان أي شخص يمكنه إدراج اسم آخر بدافع الانتقام في قضية، ليبقى موقوفا لسنوات، ومعظم القضاة لا يُبالون بطلبات المحامين ومذكراتهم، وكأن مصير إنسان وتدمير حياته وحياة عائلته لا يستحق القليل من الوقت والكثير من العدالة».
العبارات الرنّانة.. هتافات انتخابية!
وتتابع: «لا شك أن عدم إقرار قانون العفو العام، والاكتفاء باستخدام هذا الشعار أثناء الانتخابات، يُثبت ضعف الدولة في اتخاذ أي قرار. حتى أبسط الحلول لتسريع المحاكمات، كإحضار الموقوفين إلى المحاكم، لم تُحل، مع أنها لا تحتاج إلّا إلى عدد كبير من آليات السوق. فكيف يمكن قيام وطن لا نملك فيه آليات سوق لحضور الموقوفين إلى جلساتهم؟».وتشير الى ان «هناك كارثة إنسانية تتمثّل في عدم محاكمة الكثير من السجناء، إذ إن 80% من الموقوفين لا يأبه أحد لمصيرهم، حيث يقبعون خلف الجدران منذ سنوات طويلة، دون أي عمل جدي وفعلي لإيجاد حل. وبقاؤهم دون محاكمات هو مخالفة للقانون، وحقوق الإنسان، والعدالة».
وعن الموقوفين السوريين، تكشف لـ «اللواء» أن «أغلب هذه الملفات ذات طابع سياسي، و«فزّاعة» داعش تُستخدم في أوقات محددة. ونعلم أن بعض الملفات يتم تركيبها في الأجهزة الأمنية، وعندما يتعرّض أي موقوف لضرب مبرح وتعذيب، لا يمكن إلّا أن يعترف بما يريده المحقّق. وطالما لا توجد إرادة لحل أزمة السجون، فأنا أرى الأمور تتجه نحو كارثة كبرى».
أنقذوا السجناء القصّر!
وتختم حديثها قائلة: «أريد أيضا أن أطرح سؤالاً حول السجناء الأحداث: هل تعلمون أن هناك أطفالا في عمر 12 سنة تم توقيفهم ولا يزالون في السجن منذ سنوات؟ هذا ما وصلني البارحة عن عدد كبير من الأطفال والقصّر في السجون، حيث لا أحد يكترث لقانون حماية الأحداث».