يُشكّك الكثيرون في إمكانية خروج الدخان الأبيض من الصرح البطريركي في وقت قريب، وإعلان البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي “وثيقة بكركي”، التي تتضمّن بنوداً تُعتبر “خلافية” بين المسيحيين أنفسهم، وبينهم وبين المسلمين، سيما وأنّ “الشيطان يكمن في التفاصيل”. وتتضمّن هذه البنود: احترام سيادة لبنان، توحيد الصفّ المسيحي، حماية مبدأ الشراكة الوطنية، استعادة حقوق المسيحيين، تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، معالجة مسألة السلاح غير الشرعي، إعادة النازحين السوريين الى بلادهم، رفض توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وتطبيق القرارات الدولية، وغير ذلك من عناوين تتعلّق ببناء الدولة. غير أنّ ممثلي القوى المسيحية المشاركين في اجتماعَي بكركي، والذين يُواصلون المشاروات والإتصالات حالياً للتوافق على الصيغة النهائية للوثيقة، يؤكّدون عكس ذلك.
تقول مصادر سياسية مطّلعة بأنّ القوى المسيحية التي قدّمت كلّ منها ورقتها حول الثوابت الوطنية المطروحة، فوجئت بالتلاقي في ما بينها أولاً على نقاط مشتركة كثيرة، وبينها وبين مسودة “وثيقة بكركي”، الأمر الذي يشي بأنّ التوافق المسيحي- المسيحي مُمكن أن يحصل، لا سيما في ظلّ الظروف الدقيقة التي يمرّ بها لبنان ومنطقة الشرق الأوسط. وصحيح بأنّ العناوين التي تتضمّنها الوثيقة هي مدار بحث منذ أشهر عدّة بين ممثلي الأطراف المسيحية، غير أنّه خلال الشهر الماضي أظهرت النقاشات والمفاوضات أنّ “ورقة بكركي جديّة”، وأنّها ستتوخّى الوقوع في “فخّ التفاصيل”.
وتتوافق القوى المسيحية على عناوين عدّة تعرضها ورقة بكركي، على ما أضافت المصادر، ومن ضمنها مسألة السلاح غير الشرعي الذي لا يُمثّل أي عائق بالنسبة للأطراف المسيحية التي اجتمعت في بكركي. فكما جرى التقاطع في ما بينها على إسم الوزير السابق جهاد أزعور وصوّتت له في الجلسة الـ 12 لانتخاب الرئيس، يُمكنها اليوم التوافق على العناوين الأساسية التي من شأنها الحفاظ على مبدأ الشراكة الوطنية، وحماية حقوق المسيحيين، واحترام سيادة الدولة من دون المساس بحقوق الأطراف الأخرى.
وشدّدت المصادر نفسها على أنّ “وثيقة بكركي” التي يُعمل على وضع صيغتها النهائية، بعد أن ناقشتها الأطراف المسيحية ولا تزال، ووضعت ملاحظاتها عليها، باستثناء “تيّار المردة” الذي اعتذر عن المشاركة في اجتماعَي بكركي، لكنه أعلن عن تمسّكه بأي مبادرة تخرج من الصرح البطريركي ليست مسيحية- مسيحية أبداً، كما أنّها لا تسعى الى تأمين توافق الفريق المسيحي ضدّ الفريق الآخر في البلاد، بل على العكس تماماً. فالبطريرك الراعي، راعي هذه الوثيقة، يريد إنهاء المرحلة الأولى من النقاش بين القوى المسيحية الأساسية، لينتقل بعدها الى المرحلة الثانية التي سيقوم بالإعلان عنها في وقت لاحق، أي لكي تأخذ ورقة بكركي طريقها الى الإطار الوطني.
فالأطراف المسيحية ليست ضدّ أي قوّى سياسية أخرى شريكة في البلاد، على ما أوضحت المصادر، بما فيها حزب الله وسلاحه، سيما وأنّه هو من أعلن مرّات عدّة في السابق جهوزيته لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية للبنان، إنّما يهمّها الحفاظ على هذه الشراكة وصونها من أي مخاطر محيطة بها. ويُمكن أن يحصل هذا النقاش، فور انتهاء المواجهات العسكرية عند الجبهة الجنوبية، وبالتالي انسحاب قوّات العدو الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية المحتلّة تطبيقاً للقرار 1701. وهذا الأمر لن يُشكّل عائقاً أمام الإعلان عن “وثيقة بكركي” على ما يعتقد البعض، لأنّ هذا العنوان ستتمّ مقاربته ضمن إطار وطني، من دون أن يُشكّل أي استفزاز للحزب، سيما وأنّ القوى الأخرى ستكون مدعوة لاحقاً للموافقة على “وثيقة بكركي”.
وأكّدت المصادر بأنّ التوافق حاصل حالياً بين القوى المسيحية حول مفهوم الشراكة في الوطن، وهو لا يتوقّف على حساب أي شخص أو طرف. لهذا تسعى بكركي الى تثبيت هذا المفهوم، فمعركتها وطنية، وليس لديها أي خطّة مسيحية- إسلامية تزيد من الشرخ والخلافات في البلاد، بل على العكس. وتأمل في أن تتوصّل الى جمع القيادات المسيحية المارونية في الصرح البطريركي في وقت قريب، بعد أن تسلك الوثيقة طريقها الى الإعلان عنها.
وتجد بكركي أنّه على المسيحيين ضرورة التوافق في المرحلة الراهنة، على ما تابعت المصادر عينها، لحماية ما تبقّى لهم من حقوق في هذا البلد، سيما وأنّ الحديث عن تسوية قريبة يكثر في الآونة الأخيرة، من دون معرفة تفاصيل هذه التسوية أو أي سيناريو سوف تعتمد. فثمّة سيناريوهات كثيرة، من تسوية مصغّرة الى تسوية كبرى، الى انتظار توسّع الحرب ومن ثمّ اللجوء الى التسوية، أو لعلّها قد تحصل قبل أي حرب موسّعة. كذلك لا يُعرف بعد، وفق أي قاعدة ستتمّ، ومن سيكون الخاسر والرابح فيها وما الى ذلك… غير أنّه في ظلّ أي من هذه السيناريوهات التي ستنتهي حتماً بتسوية دولية وإقليمية، لا بدّ من تفادي أن تأتي على حساب اللبنانيين، ولا سيما المسيحيين منهم، على ما درجت العادة.
من هنا، تأتي محاولة بكركي بهدف توحيد الصوت المسيحي أولاً، لكي يتمكّن المسيحيون من حجز مقعدهم على الطاولة والتوافق على ما بعد التسوية. فإذا كانت التسوية تتطلّب تغييراً للنظام، أو البحث في تركيبة السلطة المقبلة، فإنّ المسيحيين سيكونون عندئذٍ جاهزين للتفاوض حول هذه الأمور، وبالتالي على حصتهم داخل هذه السلطة. أمّا إذا لم يكونوا صفّاً واحداً فسيُعطى لهم الفتات، أو يتمّ إخراجهم واستبعادهم من السلطة.
فالتسوية آتية لا محالة، على ما جزمت المصادر، وعلى القوى المسيحية أن تتحضّر لكي تكون داخلها، بهدف تخفيف الضغط ولعب دور أكبر فيها. علماً بأنّ حظوظها تكون أكبر في حال توحّدها وعرضها خطّة مشتركة لمواجهة أي تحديات مستقبلية. و”وثيقة بكركي” ستعرض هذه الخطّة من خلال الورقة التي سيتمّ الإعلان عنها. علماً بأنّ الإعلان عن الوثيقة لا يكفي، بل يجب أن يقترن بوجود جبهة دفاع موحّدة عن مبدأ الشراكة في الوطن أمام كلّ حدث أو إستحقاق مقبل.