زحمة آراء تقارب التنجيم تتصادم في لبنان حيال مسار مقاضاة حاكم المصرف المركزي السابق رياض سلامة وإمكانية إختيار رئيس للجمهورية ينهي شغور قصر بعبدا الذي تجاوز 21 شهراً، فيما تنهمك القوى الفاعلة دولياً وإقليمياً في إتمام مسودة مخطط توزيع النفوذ في الشرق الأوسط الكبير الذي يشمل البحرين الأبيض والأحمر إضافة إلى “بركة الخليج” الفاصلة بين ضفتين عربية وفارسية ولا منفذ بحرياً لها سوى عبر بحر العرب.
يتنافس المفكرون اللبنانيون في رسم مسارات مقاضاة سلامة، لكن يفوتهم أنّ أهم ما في ملفه ليس من يحاكمه وأين يحاكم، في لبنان أم في الخارج، بل كل الأهمية تكمن في خزنة أسراره علماً بأنّ غالبية حملة الأسرار في العالم كان مصيرهم القتل منعاً لتفشي أسرارهم .
أبرز من قتلتهم أسرارهم في القرن 21 الحالي هو من عُرف بجزار البلقان، الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش، الذي أطيح به وسًلّم إلى المحكمة الخاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة بلاهاي، ثم عثر عليه ميتاً في زنزانته في 11 آذار العام .2006 وقيل يومها إنه تناول دواء خاطئاً، لكن لم يُكشف من زوده بالدواء علماً بأنه كان تحت السلطة المطلقة للمحكمة وكل إحتياجاته تمر عبر رقابة المحكمة.
لبنانياً، في 24 كانون الثاني العام 2002 اغتيل إيلي حبيقة بتفجير سيارة مفخخة قرب منزله في ضاحية الحازمية شرقي بيروت، ضمن المربع الأمني للقصر الجمهوري، بعدما كان قد أعلن بأنه سيتوجه إلى المحكمة الدولية في لاهاي للإدلاء بإفادة “تغير رواية الحرب الأهلية اللبنانية” منذ كان شريكاً لنظام الأسد في الإتفاق الثلاثي عام 1985.
لم يتوصل لبنان إلى إعلان الجهة التي قتلت حبيقة، لكن يتوافق أهل الرأي على أنّ القادر على إختراق المربع الأمني للقصر الجمهوري اللبناني هو القادر على قتل حبيقة لدفن أسراره معه قبل أن يوصلها للمحكمة الدولية، فتقتل كثراً غيره.
وماذا عن إغتيال رفيق الحريري وباسل فليحان ووليد عيدو، على سبيل المثال لا الحصر، هل قتلتهم سياستهم أم خوف أعدائهم من تسريبهم الأسرار التي عرفوها خلال توليهم مناصبهم السياسية ومشاركتهم للسلطة، بشقيها السياسي والأمني، مع نظام الأسد؟
وبالتزامن مع إنهماك لبنان بضجيجه القانوني والرئاسي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه شن غارة جوية قرب مستشفى الأهلي في مدينة غزة أسفرت عن مقتل 8 عناصر من حركة حماس أبرزهم أحمد فوزي ناصر محمد وادية، قائد سرية النخبة في منظومة المظلات الشراعية الحمساوية، وهو الذي “قاد في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عملية التسلل إلى (مستوطنة) نيتيف هعاسارا من خلال مظلة شراعية، وقاد المجزرة التي ارتكِبت،” وفق نص البيان الإسرائيلي.
هل قتل وادية سيؤدي إلى إفشال أو عرقلة الجهود التي تدعمها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لترتيب وقف إطلاق نار وتبادل رهائن بين إسرائيل وحماس في غزة؟
حماس السنوار، التي سبق أن أعلنت أنها عممت على مقاتليها تعليمات حيال كيفية التصرف إذا اقترب الجيش الإسرائيلي من مواقع إحتجاز الرهائن، ما فهم بأنها أمرت عناصرها بقتل الرهائن كي لا تنقذهم إسرائيل، سبقها نتنياهو فقتل وادية ما سلب منها ورقة تهديده بتأليب أهالي الرهائن عليه.
لكن هل تحولت حركة السنوار إلى مهزومة في مسألة التبادل وإستعادة محور فيلادلفيا والإحتفاظ بدور في غزة ما بعد الحرب؟
ليس سراً أن إدارة بايدن تستخدم ورقة التبادل إنتخابياً لتكسب أصوات اللوبي الإسرائيلي، وأصوات اللوبي اللبناني الشيعي المؤيد لإيران في مدينة ديترويت وضاحية ديربورن بولاية ميشيغان، وأصوات الجالية العربية المؤيدة عاطفياً لفلسطين في أي ظرف من الظروف.
لكن بدا لافتاً جداً تجاوب العرب عموماً مع الترويج البريطاني المفاجئ لعميد الأسرى الفلسطينيين مروان البرغوثي ليكون “مانديلا فلسطين” ضمن تسوية تتضمن إطلاقه من قبل إسرائيل ليكون رئيساً لسلطة وطنية فلسطينية جديدة تتولى إدارة فلسطين في الضفة وغزة وفق تسوية لم تعلن تفاصيلها بعد.
صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية، الواسعة الإنتشار التي توزع في عطلة نهاية الأسبوع كما أنها مقربة من رئاسة الحكومة، أجرت مقابلة في رام الله مع عرب البرغوثي، نجل مروان الذي يقبع في معتقلات إسرائيل منذ 22 عاماً.
الترويج البريطاني الواضح للبرغوثي يطرح سؤالاً لن تتوفر إجابه عنه إلا بعد إطلاق سراحه: هل سيقبل السنوار بالبرغوثي رئيساً للسلطة الفلسطينية في الضفة الضفة الغربية وغزة، وإذا قبل، فلقاء ماذا؟
السنوار يريد حصة لحماسه في سلطة ما بعد الحرب، لذلك فإن السؤال ليس هل يوافق البرغوثي على مشاركة السلطة مع السنوار، بل هل توافق القوى، العربية وغير العربية التي تدعم البرغوثي، على ما يطلبه السنوار، أم أن الصيغة المتوافق عليها تبقى: “لا دور لحماس في حقبة ما بعد حرب غزة”؟
ووصفت الصحافية كريستينا لامب التي أجرت المقابلة مع الأسير البرغوثي بأنه “السياسي الأكثر شعبية بين الفلسطينيين الذين يعتبرونه نيلسون مانديلا الفلسطيني حيث يتصدر قائمة الأسرى الذين يمكن الإفراج عنهم مقابل نحو 108 أسرى إسرائيليين في قطاع غزة.”
ونقلت عن دبلوماسي غربي -لم تذكر اسمه- وصفه البرغوثي بأنه “أهم سجين سياسي في العالم حالياً”.
وأعربت د. جولي نورمان، أستاذة السياسة والعلاقات الدولية في جامعة لندن ومؤلفة كتاب عن الأسرى الفلسطينيين، عن توقعها بأن يشكل إطلاق سراح البرغوثي “نقطة تحول في السياسة والقومية الفلسطينية.”
تشكيل مسودة خارطة النفوذ في الشرق الأوسط الكبير لا يقتصر على الترويج البريطاني للبرغوثي في فلسطين، بل يسجل تطوراً رئيسياً أيضاً في سوريا بدعم روسي مباشر يهدف إلى تطويق المد الإيراني في المنطقة والحفاظ على وحدة أراضي سوريا بقيادة الرئيس بشار الأسد الذي تستعيده الدول العربية إلى حضنها شرط تخلّصه من نفوذ الحرس الثوري الإيراني الذي يشاركه السيطرة على بلاده.
لتحقيق هذا الهدف أقامت القوات الروسية نقطة مراقبة جديدة في الجزء الذي يسيطر عليه نظام الأسد من مرتفعات الجولان للحد من الهجمات التي تشنها مجموعات حزب الله اللبناني على إسرائيل ليرتفع بذلك عدد النقاط الروسية قرب الحدود مع الجولان إلى 15، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
وكان الأمين العام لمجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو قد نقل في الأسبوع الأول من شهر آب رسالة من رئيسه فلاديمير بوتين إلى المرشد الإيراني علي خامنئي يطلب منه أن يكون رد بلاده “محدوداً” على اغتيال إسماعيل هنية في طهران.
تطبيق جميع مفاصل المشهد الإقليمي رهن إلتزام أطرافها المحليين بها، فهل سيلتزم محور إيران بما تريده منه موسكو ولقاء ماذا؟
محمد سلام – هنا لبنان