على رغم تحذيره الرئيس رفيق الحريري أكثر من مرّة بأنّ هناك عملية يتمّ تحضيرها لاغتياله إلّا أنّ الحريري بقي مستندا إلى تطمينات دولية لم تستطع أن تحميه في النهاية. اللواء أشرف ريفي لم يستطع أن يعود إلى فرع المعلومات بعد عودة الرئيس رفيق الحريري إلى السراي بعد انتخابات العام 2000 ولكنه انتقل إلى المباحث الجنائية التي أمّنت البقاء على تواصل مع عدد من مصادر المعلومات. محاولة اغتيال الوزير مروان حماده كانت إنذارا لخطورة المرحلة.
في هذه الحلقة يروي اللواء أشرف ريفي أيضا ما حصل بينه وبين الرئيس الحريري صبيحة 14 شباط وكيف عين مديرا عاما لقوى الأمن الداخلي بعد الإغتيال وكيف عاد وسام الحسن إلى قوى الأمن وتسلم رئاسة فرع المعلومات وكيف بدأت عملية بناء قدرات الجهاز الذي عمل على كشف جريمة اغتيال الرئيس الحريري.
لماذا تمّ إبعادك من فرع المعلومات ولماذا مُنعت من العودة إليه؟
بقي الرئيس رفيق الحريري سنتين خارج السلطة. من العام 1998 حتى العام 2000 تعرّض خلالهما للمحاربة والتضييق. لم يعد أحد يجرؤ على زيارته في تلك المرحلة. كنت من الضباط القلائل جداً الذين استمروا على العلاقة معه وزيارته. عندما تعرّفت إليه كنت في فرع المعلومات وقبلها في أمن الدولة كنا نرتدي ثيابا مدنية.بعد تشكيلي إلى مركز التدريب صرت أرتدي البزة العسكرية بحسب القوانين. بقيت أتردّد اليه في الأوقات نفسها كل اثنين وأربعاء وجمعة. استغرب. سألني: شو مبيّن لابس عسكري؟ قلت له: شو نسيت دولة الرئيس إنو أنا ضابط؟ بقيت علاقتي منتظمة معه طوال العامين اللذين بقي فيهما خارج رئاسة الحكومة وفي صراع مفتوح مع عهد الرئيس أميل لحود. التقيت مرة عنده بدولة الرئيس فريد مكاري.
سألني: كيف تتجرّأ وتزور الرئيس الحريري؟ قلت له: أنا ضابط والرئيس الحريري رئيس حكومة سابق ومن له مأخذ عليّ يمكنه أن يحاسبني. لم يكن عندهم أي ممسك عليّ. كانت علاقة احترام بيننا. خلقوا جو رعب في محيط الرئيس رفيق الحريري ليجبروا من كانوا معه على تركه والإبتعاد عنه. خلال هذه الفترة ترسّخت علاقة الإحترام والتقدير وكنا نتابع ملفات معينة. كانت لدينا شبكات ومصادر معلومات وعلاقات وصداقات بنيناها خلال مرحلة العمل في فرع المعلومات بقينا على تواصل معها. عندما خاض انتخابات العام 2000 وحقق فيها انتصارا كبيرا عاد إلى رئاسة الحكومة. طلب مني أن أعود إلى فرع المعلومات أفهمه السوريون أن هذا الأمر ممنوع. قال له غازي كنعان: أشرف ريفي ما بيرجع عالمعلومات. يمكنه أن يختار أي مركز آخر. حاول الرئيس الحريري ولكنهم بقوا مصرين. هذا الأمر غير قابل للحوار. اخترت أن أتسلم مسؤولية مكتب المباحث الجنائية الخاصة في ثكنة قوى الأمن الداخلي على بولفار كميل شمعون ( ثكنة العقيد الشهيد جوزف ضاهر).
ريفي والشهيدان وسام الحسن ووسام عيد
كانت تصلكم تحذيرات أمنية؟
لا. كانوا يعرفون طبيعتي وأنّني لا أعمل تسويات. ولكن نتيجة التسوية مع الرئيس الحريري عينت في المباحث الجنائية ومع ذلك لم يكونوا أيضا مرتاحين لهذا التعيين. كانوا يريدون أزلامهم في كل المراكز أكثر مما يريدون ضباطاً مهنيين وكان يحصل تواصل معهم بحكم طبيعة العمل ولكن ليس بتبعية. من خلال مكتب مكافحة الإرهاب الذي كان تابعاً للمباحث الجنائية كنا نتمكن من الإطلاع على بعض المعلومات ومتابعة بعض القضايا. عندما تأكّدنا من عدم القدرة على عودتي إلى فرع المعلومات اقترحت على الرئيس الحريري مركز المباحث الجنائية وقلت له إن هذا المركز فيه إطلالة على الملفات الأمنية ويمكن من خلاله تكوين شبكات خاصة لنا والمحافظة على الشبكات التي كنا على اتصال معها سابقاً. في تشرين 2004 خرج الرئيس رفيق الحريري من رئاسة الحكومة بعد التمديد للرئيس أميل لحود ومخالفة القرار 1559 الذي يطالب أيضا بسحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح الميليشيات اي «حزب الله».
كانت حصلت محاولة اغتيال الوزير مروان حماده في أول تشرين الأول 2004 وكان الرئيس السوري بشار الأسد هدّد الرئيس رفيق الحريري للموافقة على التمديد للرئيس لحود ونقل ما حصل معه إلى المقربين منه. وفي هذه الأجواء شكّلوا الحكومة برئاسة الرئيس عمر كرامي بعدما اعتذر الرئيس رفيق الحريري بطريقة دراماتكية واضعاً «لبنان الحبيب بين يدي الله». كان لدينا مصدر معلومات مهم جداً. قال لي هذا المصدر: «بلّغ الرئيس الحريري إنو الجو مش نضيف. كأن هناك عملية تحضير لاغتياله. في جو اغتيال». هذا الكلام كان ليلة عيد الميلاد 24 كانون الأول 2004. فوراً توجهت إلى عند الرئيس الحريري. ونقلت إليه المعلومات. قلت له: دولة الرئيس المصدر فلان الفلاني يقول لك واحد تنين تلاتة… وكان يعرفه شخصياً. كنا شامّين هيك شي وكانت هناك أمور ممهدة.
قال لي: أشرف… ما بيسترجوا يعملوها. عندي تطمينات دولية. قلت له: دولة الرئيس ما فيك تركن لتطمينات دولية مع أنظمة توتاليتارية. هيدي الأنظمة بتعمل اللي بدّها ياه وما بتردّ على حدا بالنهاية. قبل أسبوعين من اغتياله توفرت لدينا معلومات إضافية من مصدر آخر يعرفه الرئيس الحريري شخصياً ايضاً. أتى هذا المصدر وأبلغني: الوضع واحد تنين تلاتة… الأرجح راحت الأمور على التنفيذ. نبّه الرئيس الحريري. هناك محاولة اغتيال. خليه يغادر البلاد أو ياخد احتياطات قصوى. فوراً توجهت لعند الرئيس الحريري وأبلغته بهذا الأمر. قلت له دولة الرئيس هذه معلومات من مصدر آخر تعرفه وسميته له. وهو مصدر مش خفيف. بيقلّك يا تروك لبنان يا ما بقى تضهر لمحل. كذلك كان جوابه: ما تعتل همّ شي… توجد تطمينات دولية.
ماذا كان مطمئنا إلى هذا الحد؟ ألم تكن محاولة اغتيال مروان حماده بمثابة إنذار أو رسالة موجهة إليه أو إلى وليد جنبلاط؟ ألم تكن إشارة إلى بدء مسلسل اغتيالات قد يطاله؟ ألم تحرّك هذه العملية الهواجس الأمنية لديه؟
حرّكتها. صحيح. ولكن ليس إلى حدّ أنّ أحدا قد يتجرّأ على اغتياله نتيجة التطمينات الدولية التي كانت لديه. كان لا يزال يعتبر أن هذه الأنظمة، أي النظام السوري، تعود وتعمل حساباتها بالنسبة إلى علاقاتها مع هذه الدول.
بعد محاولة اغتيال حماده ألم تنكشف معلومات أولية حول الجهة التي كانت تقف وراءها لاستخلاص إشارات معينة منها؟
صحّ. بيّنت المعلومات أن السيارة المفخخة التي استعملت في عملية الإغتيال أتت من الضاحية الجنوبية. الأرجح أن الرئيس الحريري أخذ علماً بالموضوع. قلنا له ما لدينا من معلومات ونصحناه بالخروج من لبنان. ولكنه لم يفعل. صباح 14 شباط 2005. ساعات قبل اغتياله. كان يوم الإثنين. وهو يوم زيارتي الدورية له مساء. كنت قبل الظهر أقوم بزيارة تعزية مع زوجتي. اتصل بي الدكتور أحمد فتفت وقال لي: كنت عند الرئيس رفيق الحريري وهو يريدك أن تمرّ عليه. قلت له أنني سأزوره في المساء. قال لي: فهمت منه أنه يريدك أن تمرّ الآن. نزلت. قابلته. كنت كما أعتقد آخر ضيف استقبله قبل توجهه إلى مجلس النواب. بقيت معه من الساعة العاشرة تقريباً حتى العاشرة والنصف وهو وقت طويل بالنسبة إلى لقاءات الرئيس رفيق الحريري. هو عادة يمكن أن يبحث معك عشرين موضوعاً في خمس دقائق إلا إذا كان يريد أن يتعمّق في بعض التفاصيل. كنا لوحدنا. بحثنا في كل القضايا. سألته إلى أين سيذهب؟ قال إلى مجلس النواب.
ماذا كان يريد أن يبحث معك؟
مواضيع سياسية وأمنية استدعت أن تطول الجلسة هذا الوقت نصف ساعة. لم يكن مرتاحاً للوضع. كان يضع أمامه عدداً من جريدة المستقبل مطوياً وكان فيه خبر عن تعيين آصف شوكت مسؤولاً عن الأمن العسكري في سوريا. حكينا في هذا الموضوع. قلت له إنها مؤشرات غير مطمئنة. ولكنه لم يعر الأمر اهتماماً زائداً ولم يكن مثل هذا الخبر ليخيفه. طلب مني عدة طلبات وقلت له انني سأعود لألتقيه عند المساء. قال إنها أمور لا تستدعي هذه العجلة. وغادرت الساعة 10 ونص إلا خمسة. الساعة وحدة و7 دقايق طلع الإنفجار.
كيف دخل اللواء وسام الحسن إلى فرع المعلومات؟ وكيف بدأت علاقتك معه وعلاقته مع الرئيس رفيق الحريري؟
عندما كنت ضابط أمن سرية الحرس الحكومي مع الرئيس سليم الحص فصلوا ضابطين إلى السرية هما الملازم فارس فارس والملازم وسام الحسن. وكانا من دورة واحدة. ضابطان مرتبان يلفتان النظر. عندما انتهت مهمتهما في السرية مع الرئيس الحص طلب فارس فارس أن يبقى مع الحص. وسام الحسن كان يتابع دورة مع الأنتربول في ليون لمدة سنة كشرطة قضائية. كان ذلك قبل أن تنتهي مدة حكومة الرئيس الحص في العام 1990. ولكن كنا صرنا عارفين أننا أمام مرحلة ستنتهي. قلت لوسام الحسن ليذهب ويتابع الدورة. قال لي ما فينا نترك رئيس الحكومة. قلت له ما تعتل همّ. مصيرنا ومصيرك ومستقبلنا ومستقبلك أولاً وأخيراً في هذه المؤسسة. نحن نكلَّف بمهمات وننفِّذها. لذلك لا تفوِّت هذه الفرصة عليك. راح عمل الدورة. وبعدما رجع أكمل في سرية الحرس الحكومي مع الرئيس عمر كرامي الذي ترأس الحكومة بعد الرئيس الحص في بداية عهد الرئيس الياس الهراوي وبعد عملية 13 تشرين التي أخرجت العماد ميشال عون من قصر بعبدا.
وبقي أيضا في السرية بعد سقوط حكومة الرئيس كرامي وبعد تشكيل حكومة الرئيس رشيد الصلح التي أشرفت على انتخابات 1992 التي حصلت فيها مقاطعة مسيحية كبيرة. في هذه المرحلة نشأت علاقة عميقة بيننا وتوطدت معرفتنا الشخصية لأننا كنا ننفذ مهمات غير تقليدية تستدعي بناء الثقة بين الضباط. استمرت هذه العلاقة حتى صار يتعرض لمضايقات في مركز عمله في السرية خصوصاً بعد استقالة الرئيس رفيق الحريري في تشرين 2004. نصحه الرئيس الحريري بالإستقالة. استقال. عندما اغتيل الرئيس الحريري كان وسام الحسن مستقيلاً من قوى الأمن الداخلي. كان ذلك بعد تعيين اللواء علي الحاج مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي وبعدما بات الجو الداخلي معادياً وغير إيجابي وكانت هناك حساسية بينه وبين الحاج.
كيف أصبحت مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي؟
بعد خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005 وبعد تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بيومين وهي الحكومة التي كانت ستشرف على الإنتخابات. كان قرار تعييني من أول القرارات التي اتخذت. بعد تسلمي مهامي عينت العقيد سمير شحاده رئيسا لفرع المعلومات.
لماذا تم تعيينك أنت؟
كنت ضابط الإرتباط مع بعثة التحقيق الدولية برئاسة بيتر فيتزجيرالد. بعد مغادرته عُيِّنت مديراً عاما لقوى الأمن الداخلي ورئيس لجنة الإرتباط مع لجنة التحقيق الدولية. في هذه المرحلة أقنعت وسام الحسن بالعودة إلى قوى الأمن الداخلي. قلت له: طلعت من المؤسسة لظروف نعرفها. بعدك بأول حياتك العسكرية ولديك مستقبل واعد. اسمع مني وارجع إلى المؤسسة واستلم شعبة المعلومات. وسام الحسن وسمير شحادة من دورة واحدة وكان حريصاً على العلاقة بينهما إذا أخذ مكان شحادة. قلت له لا تعتل همّ هذه المسألة. نحن ننسِّق بينكما. المهمة تعلو على الرتبة في هذه الحالة. تكون أنت الرقم واحد وشحادة الرقم 2. بقي المقدم سمير شحادة ستة أشهر رئيس شعبة المعلومات. ولما عاد وسام الحسن إلى السلك تسلم رئاستها وبقي شحادة إلى جانبه حتى حصلت محاولة اغتياله، أي اغتيال سمير شحادة.
(حصلت محاولة اغتياله الساعة العاشرة وعشر دقائق صباح الخامس من أيلول من خلال استهداف موكبه بعبوات ناسفة زرعت إلى جانب الطريق في محلة الرميلة قرب جسر علمان، واستشهد على الفور المؤهل أول وسام حرب والرقيب شهاب حسن عون. وأعلنت القوى الأمنية لاحقاً استشهاد الرقيب أول نمر ياسين والرقيب أول عمر الحاج شحادة متأثرين بإصابتهما). عند هذه المرحلة كنا بدأنا نكشف خيوطاً في عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري وكانت محاولة اغتيال شحادة بمثابة إنذار للتوقف عن التحقيق.