لم يعد مستغربا الحديث عن الفساد المتغلغل في كافة الإدارات والمؤسسات الرسمية دون استثناء، في ظل غياب فاضح للدولة وانعدام المحاسبة والمراقبة، ناهيكم بمعاناة المواطنين بعد تدني القدرة الشرائية وتفاقم الأوضاع المعيشية والمادية سوءا، خاصة بالنسبة للمرضى الذين يعانون من امراض حادّة، فأدوية هؤلاء اما مفقودة من الصيدليات او تباع سوقا سوداء وقد تكون مغشوشة، او تؤخذ عن طريق وزارة الصحة التي توزع العقاقير على هواها ووفقا للمحسوبين على هذا الوزير او ذاك النائب وهكذا دواليك. اما مَن هم بحاجة الى العلاج فينتظرون لساعات طويلة في طوابير، دون حصولهم على الدواء لأسابيع متتالية وربما لأشهر.
الدواء “فري” فلماذا المماطلة بتسليمه؟
الجدير ذكره، ان وزارة الصحة لا تشتري هذا الدواء كغيره على نفقتها الخاصة، وانما تتسلّمه على شكل هبة من المنظمات والهيئات والدول المانحة، التي ترسل قائمة بأدوية لا يستفيد منها الواطنون او قد لا يحتاجون اليها كلها، فينتهي امرها في مكبات التلف.
فالمصاب بالتهاب المفاصل والروماتويد يحتاج الى جرعة واحدة في الشهر من دواء “هوميرا” عيار 40، الا ان الدول المانحة تقوم بإرسال عيار 80، والذي لا ينبغي استخدامه كون له آثاراً سلبية، بل يجب تناول الجرعة الموصوفة بحسب تعليمات الطبيب. والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لا تحدد وزارة الصحة العامة الادوية التي تحتاج اليها، وفقا للوائح المتوافرة لديها بأسماء مرضى الامراض السرطانية والتصلب اللويحي والمناعة وغيرها من العقاقير، التي تعتبر علاجاً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه لأي سبب من الاسباب؟
التوزيع عالـ “المحسوبية” او “الواسطة”
الى جانب ذلك، يجب على الوزارة توزيع الادوية التي تتسلمها على المرضى، بحسب مقدار حاجة المريض من الدواء او وفقا لآلية العلاج. إشارة الى ان معظم الهبات التي تصل الى “الصحة” تواريخها قريبة، ومن الطبيعي انتهاء صلاحيتها سريعا، فضلا عن انها تخزن لأشهر في المستودع المركزي. وهذا طبعا يصبّ بإطار الفساد العام، في ظل غياب الجهات المعنية الملزمة بمتابعة ملفات المواطنين الطبية، لوضع حد لكل هذه التجاوزات.
التخزين قضى على هبتين!
في موازاة ذلك، اغلبية المرضى في لبنان غير قادرين على شراء الادوية، لا سيما تلك المخصصة لمعالجة الامراض المستعصية مثل السرطان وامراض المناعة الذاتية والتهاب الأمعاء الالتهابي والصدفية. ولكن اواخر أيار الفائت قامت وزارة الصحة بإهلاك هبتين من دواء “هوميرا” بلغ حجمها حوالي 7 آلاف علبة، والمريض يحتاج عادة الى حقنة واحدة في الشهر، ما يعني ان هكذا هبات بدلا من افسادها، كان من الممكن توزيعها على المرضى الذين لا يتجاوز عددهم الـ 1000.
إشارة الى ان هذا الدواء من الادوية المعرضة للانقطاع، ووفقا للمعلومات التي حصلت عليها “الديار”، فقد تم صرف حوالي 800 علبة من أصل الكمية، وبسبب قرب موعد انتهاء تاريخ الصلاحية سمحت الوزارة للجهات الضامنة بحصة من هذا العقار، دون موافقات مسبقة كما يجري عادة وذلك لمرة واحدة واستثنائية. ورغم كل المحاولات التي قامت بها “الصحة” للتخلص من الكمية، لكن بقي في مستودعاتها حوالي الـ 1000 علبةـ ما اثار مشكلة لجهة التوضيب والتلف. وفي ظل عدم وجود سياسة التلف محليا وارتفاع اكلاف تسفير الادوية الى الخارج، يبقى المريض ضحية غياب نظام اداري منظم وفعال يسهل عليه اخذ حاجته، بدلا من استبعاده لأشهر.
المراوغة في صرف الدواء
فوق ذلك، يتحايل الموظفون بصرف الدواء للمواطنين، وفي هذا السياق أخبر أحد المرضى “الديار” ان موظفاً اسمه ب. غ كان في كل مرة يتحجج ان الملف يستلزم توقيع الوزير، لذلك لا يمكن صرف الدواء قبل ذلك. وهذا ما حدث مع ناهد (اسم مستعار) التي اضطرت للقدوم من الجنوب الى مبنى الوزارة على مدى 3 أيام متتالية، رغم التوترات الأمنية في المناطق الحدودية وفي كل يوم كانت تعود خائبة. وقالت لـ “الديار” “قدّمت جميع المستندات المطلوبة وتسجلت على المنصة، طبعا الى جانب التقرير الطبي المفصّل بحالتي وحاجتي الضرورية لهذا الدواء، والوصفة الطبية التي حدد فيها طبيبي كمية الجرعة المطلوب اخذها والمدة الزمنية”.
اضافت “الوزارة ابلغتني ان تسليم الدواء يكون في غضون أسبوع، ولكن مضى شهر ولم أستطع الحصول على جرعتي بعد، وتحولت كل الوعود الى سراب، فالمريض يتنقل ما بين الوزارة والمستودع المركزي التابع لها والكرنتينا ويعود فارغ اليدين”.
وتابعت “المريض يدور في حلقة مفرغة، ومن بعد عدة مشاوير يعاود الموظفون ارساله من جديد الى مبنى الوزارة لأخذ الموافقة من اجل إعطائه الدواء. والانكى هو صرف المرضى بعد وقت طويل من الانتظار لان الدوام الرسمي قد انتهى، ويطلب منهم العودة في اليوم التالي غير مكترثين بأن البقاء من دون دواء، وان لساعة واحدة إضافية، قد يعرض حياة المريض للخطر”.
وكشفت مصادر متابعة لهذا الملف لـ “الديار” “ان الدواء كان يوزع مجانا في مستشفى الكرنتينا الحكومي، ولكن الابرة التي وصلت الى وزارة الصحة مؤخرا هي من شركة مختلفة، ولا يمكن للمريض اخذ نصف كمية الدواء كما كان يفعل في السابق، كونها قائمة في “سرنجة” او “محقنة” واحدة، لذلك لا يمكن افراغ المقدار المطلوب من الحقنة، كما لا يمكن للمريض اخذ عيار 80 إذا كانت حالته تستدعي اخذ جرعة الـ 40 ، لذلك بقي عدد كبير من المرضى حاليا بلا دواء، لأن هذا العقار غير متوافر في الصيدليات، وان وجد فسعره مرتفع جدا”.