أي منطق أن نحتاج الى الوساطة الروسية في المفاوضات بيينا وبين سوريا حول الحدود البحرية، موازاة مع الوساطة الأميركية بيننا وبين «اسرائيل»؟
ذات مساء دمشقي، كنت في حفل استقبال أقامته سفارة عربية في فندق «الميريديان». اقترب مني رجل ضخم، وراءه Bodyguard لا يقل عنه هولاً. سألني بوجه مكفهر، وبلهجة مكفهرة، «حضرتك فلان الفلاني». أجبت «نعم»… قال «أنت خربت لنا بيتنا». باستغراب رددت «أنا لا أخرب بيت فراشة، كيف لي أن أخرب بيت رجل مثلك، ولم ألتق به في حياتي»؟
أوضح لي أنه رجل أعمال، وأن الرئيس حافظ الأسد كان في صدد التوقيع على قانون باتخاذ خطوات ليبرالية باتجاه اقتصاد السوق. وحين قرأ مقالة لي توقف عن التوقيع. كان عنوان المقالة «التاجر الدمشقي يبيعك ابريق الماء على أنه البحر الأبيض المتوسط». في احدى فقراتها أن خطوات في الليبرالية الاقتصادية تستتبع تلقائياً، خطوات في الليبرالية السياسية بكل تداعياتها الغامضة.
الآن، وقد انتهينا الى الترسيم مع الدولة العدوة، يبقى الترسيم مع الدولة الشقيقة. تجاربنا ان الخلافات الحدودية بين العرب والعرب غالباً ما تكون أكثر مرارة، وأكثر ضراوة، من الخلافات بين العرب والآخرين.
لكننا واثقون من أن وجود الرئيس بشار الأسد على رأس الدولة، لا بد أن يدفع المفاوضات الى نهايات سريعة ومتوازنة، بعدما لاحظنا ما كان يفعله الأسد الأب حين كانت تتعقد مسألة ما بين البلدين، كان يتدخل ويحسم لمصلحة لبنان.
وكنا قد رفضنا نظرية فريدريك هوف حول التلازم بين التداخل الجيولوجي والتداخل الاستراتيجي بين لبنان و»اسرائيل». بالفم الملآن نقول بالتلازم الحتمي بين التداخل الجيولوجي والتداخل الاستراتيجي بين لبنان وسوريا. انه منطق الأشياء، ولقد آن الآوان لنتعامل بهذا المنطق في منطقة غاب عنها كل أثر للمنطق…
بطبيعة الحال، لن نتفاوض باسلوب خالد العظم (المليونير الأحمر) في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، ولا باسلوب التاجر الدمشقي الذي يبيعك ابريق الماء على أنه البحر الأبيض المتوسط. الأحداث أظهرت لنا كم هو ضروري اعادة ترميم العلاقات بين بيروت ودمشق. نزار قباني كان يصف ذلك بـ «ثقافة حياة»!!
ندرك مدى الضغط الذي نتعرض له لتبقى أبوابنا موصدة مع دمشق التي تتعرض لعقوبات أقل ما يقال فيها إنها جهنمية. الهدف تقويض الدولة السورية اقتصادياً، بعدما أخفقت كل محاولات تقويضها عسكرياً. ندرك أيضاً أن هناك في لبنان من توارثوا جينياً، كراهية كل ما هو سوري (باستثاء النازحين الذين يستبقونهم اما لاستخدامهم أو للتشهير بأهل النظام في سوريا). عند هؤلاء الطريق الى أورشليم لا الطريق الى دمشق هو الحل…
هذا لا يغيّر شيئاً لا في منطق الأشياء، ولا في قوة الأشياء. لذا يعوّل كثيرون على دور يضطلع به اللواء عباس ابراهيم لتكون المفاوضات سلسة وخلاقة.
في هذا السياق، تناهت الينا آراء أكثر جهة، تقول اذا كان هناك من يعي الحالة اللبنانية، ومن هم الرجال الذين عملوا ويعملون من أجل اعادة احياء لبنان الذي هو بحاجة الى رجل مثل اللواء ابراهيم، رجل لا نعرف الكثير عن المهمات الشاقة (المهامت المستحيلة) التي قام بها ونجح فيها، لانقاذ بلاده في الأوقات الحرجة.
حتماً الترسيم مع سوريا والبدء باستكشاف الغاز في مياهنا. أهم ـ استراتيجياً ـ من الترسيم مع «اسرائيل»، لأن الأنابيب لا بد أن تمر بسوريا وهي في الطريق الى تركيا، ومنها الى أوروبا. الغاز السوري أيضاً لأن العلاقات بين دمشق وأنقرة لا يمكن أن تبقى على توترها.
أياً كان في السلطة، تركيا تسعى لتكون محطة العبور لغاز شرقي المتوسط الى القارة العجوز. اذاً، لنفكر استراتيحياً بدلاً من أن نبقى ندور داخل الآفاق الضيقة، والمصالح الضيقة، والسياسات الضيقة. محمد الماغوط نصحنا بألا ندخل الى القرن ـ وهنا الى السوق ـ مثلما تدخل الذبابة الى غرفة الملك…