اللواء – المحامي د. ابراهيم العرب
لقد حقق اليمين المتطرف في الاتحاد الأوروبي فوزاً ساحقاً في الانتخابات الأخيرة التي جرت بين ٦ و٩ حزيران ٢٠٢٤، حيث شهدت الأحزاب اليمينية المتطرفة زيادة كبيرة في عدد المقاعد، مما أدّى إلى زعزعة النفوذ التقليدي للأحزاب المعتدلة واليسارية. حققت الأحزاب اليمينية، بما في ذلك جماعات مثل «الهوية والديمقراطية» و«المحافظون والإصلاحيون الأوروبيون»، مكاسب كبيرة، حيث يمكن أن تصبح المجموعة الثالثة من حيث الحجم في البرلمان الأوروبي الجديد؛ فعلى سبيل المثال، حزب التجمع الوطني الفرنسي بقيادة مارين لوبان حقق مكاسب كبيرة، مما أدّى إلى هزيمة مدوية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. كما شهد حزب «الإخوة الإيطاليون» بقيادة جورجيا ميلوني زيادة كبيرة في عدد مقاعده، في حين تمكّن حزب البديل من أجل ألمانيا من الاحتفاظ بنفوذه رغم الفضائح التي لحقت به.
هذا التحوّل نحو اليمين قد يؤثر بشكل كبير على سياسات الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بالتغيّر المناخي والسياسات البيئية. من المتوقع أن تعرقل الأحزاب اليمينية المتطرفة الجهود المبذولة لدفع الصفقة الخضراء الأوروبية، مشيرة إلى هذه السياسات باعتبارها نخبوية ومهدّدة للاقتصاديات الوطنية.
هذا الصعود قد يحمل معه تغييرات جذرية في السياسات الداخلية والخارجية لتلك الدول، وهو ما قد ينعكس بآثار ملموسة على الديمقراطية والمجنّسين حديثاً. فيما يلي نستعرض أبرز تلك التغيّرات والآثار:
التغيّرات المتوقعة في السياسات:
– السياسات الداخلية:
التشديد على الهجرة: من المتوقع أن تتخذ الحكومات التي يسيطر عليها اليمين المتطرف إجراءات أكثر صرامة تجاه الهجرة، بما في ذلك تعزيز الحدود، تقليص برامج اللجوء، وزيادة التدقيق في حالات الهجرة الشرعية. ومن المؤكد أن هذا التحوّل سيؤدّي إلى تقليص السياسات المشتركة في مجالات مثل الصحة والهجرة؛ حيث ستصبح تشريعات الاتحاد أكثر صرامة حول موضوع الهجرة، مما قد يعزز من سياسات إغلاق الحدود والصفقات مع دول خارج الاتحاد لمنع تدفق المهاجرين.
كما قد ترفض الأحزاب اليمينية المتشددة سياسات التضامن التي تتطلب من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قبول حصص من طالبي اللجوء أو المساهمة المالية لدعم الدول الأخرى.
القومية الاقتصادية: ستدفع الحكومات اليمينية نحو سياسات اقتصادية حمائية تركز على دعم الصناعات الوطنية وتقليل الاعتماد على الواردات الأجنبية.
التغييرات القانونية والاجتماعية: قد تشهد بعض القوانين المتعلقة بحقوق الأقليات والمهاجرين تغييرات تقييدية، حيث تعكس سياسات اليمين المتطرفة توجهات اجتماعية عنصرية.
التعليم والإعلام: يمكن أن تتأثر المناهج التعليمية ووسائل الإعلام بالتوجهات اليمينية، مع خطر نشر أيديولوجيات قومية وتقليل مناهج تعليمية عن التعددية وحقوق الإنسان.
– السياسات الخارجية:
العلاقات الدولية: ستصبح العلاقات مع الدول غير الغربية أكثر تعقيداً، حيث قد تتبنّى الحكومات اليمينية سياسات أكثر عدوانية تجاه الصين وروسيا، وربما تنأى بنفسها عن بعض الاتفاقيات الدولية. كما ستتعقّد عملية التوسّع في الاتحاد الأوروبي، لا سيما أن الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا كان دافعاً لزعماء الاتحاد الأوروبي لتسريع عملية انضمام الدول المجاورة إلى الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، كان وما زال القوميون اليمينيون يخشون من تكاليف التوسعة ويعارضون ميزانية أكبر للاتحاد الأوروبي لدعم الدول الفقيرة. ولذلك قد يؤدي فوز اليمين المتطرف الأخير إلى تعقيد عملية انضمام دول مثل أوكرانيا وجورجيا ودول غرب البلقان إلى الاتحاد الأوروبي.
التغيّر المناخي: من المتوقع أن تتراجع الجهود المبذولة لمكافحة التغير المناخي، حيث ينظر العديد من الأحزاب اليمينية إلى السياسات البيئية باعتبارها عائقاً أمام النمو الاقتصادي. يمكن أن يؤدي التحول نحو اليمين إلى المزيد من التخفيف أو تأخير الأهداف الخضراء.
التعاون الدولي: قد تتأثر التعاونات الدولية في مجالات الأمن ومكافحة المُخلّين بسياسات اليمين المتطرف، مما قد يؤدي إلى تراجع بعض التحالفات التقليدية.
– الآثار على الديمقراطية:
تآكل المبادئ الديمقراطية: يمكن أن يؤدي صعود اليمين المتطرف إلى تآكل بعض المبادئ الديمقراطية الأساسية، مثل حرية التعبير وحقوق الإنسان واستقلال القضاء. فالأحزاب اليمينية غالباً ما تسعى للسيطرة على المؤسسات الديمقراطية وتقويض استقلالها لضمان استمرار هيمنتها السياسية.
الاستقطاب السياسي: ستزداد حدّة الاستقطاب السياسي والاجتماعي، مما يضعف التماسك الوطني ويعزز الانقسامات داخل المجتمع.
النظام الانتخابي: قد تؤثر التوجهات اليمينية على النظم الانتخابية، حيث يمكن أن تسعى لتغيير القوانين الانتخابية لضمان بقائها في السلطة.
– الآثار على المجنّسين حديثاً:
زيادة التمييز: قد يتعرض المجنسون حديثاً لمزيد من التمييز والعنصرية، حيث تعزز الحكومات اليمينية السياسات القومية التي تفضل المواطنين الأصليين على المجنسين.
تقليص حقوق المجنسين: من الممكن أن تشهد بعض القوانين التي تمنح المجنسين حقوقاً متساوية مع المواطنين الأصليين تغييرات تقلص من تلك الحقوق، مما يحد من فرصهم في العمل والتعليم والرعاية الصحية.
الاندماج الاجتماعي: ستصبح عمليات الاندماج الاجتماعي أكثر صعوبة في ظل سياسات اليمين المتطرف التي ترفض التعددية الثقافية وتفضل سياسات الانصهار الثقافي القسري.
– التصدّي للسياسات الخضراء:
لطالما حمل الاتحاد الأوروبي طموحاً كبيراً بأن يكون في صدارة العالم عندما يتعلق الأمر بالبيئة، ولكن ناخبي أوروبا يزداد قلقهم بشأن تكلفة الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر. على سبيل المثال، الاحتجاجات الجماهيرية الأخيرة للمزارعين في بروكسل تعكس هذه المخاوف، مما أدى إلى تراجع الاتحاد الأوروبي عن العديد من القواعد البيئية الرئيسية. ولذلك قد يؤدي التحوّل نحو اليمين المتطرّف في البرلمان الأوروبي إلى المزيد من التخفيف أو تأخير الأهداف البيئية، مما يهدّد تحقيق رؤية الاتحاد لخفض الانبعاثات بحلول عام 2040.
كما تَعِد الأحزاب القومية اليمينية باتحاد أوروبي مختلف فيه مزيد من السلطة للدول القومية وتدخل أقل من «بروكسل» في الحياة اليومية. وإذا ارتفعت أصواتهم في البرلمان الأوروبي، فقد يزيد ذلك من صعوبة حصول المفوضية الأوروبية على صلاحيات أكثر من الحكومات الوطنية.
ولكن من غير المرجح أن تتغيّر النظرة إلى الأمن والدفاع باعتبارها أولوية، خاصة في ظل الصراعات الحالية، واتفاق أغلب أعضاء الاتحاد الأوروبي على ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي. إلّا أن تأثير الولايات المتحدة تحت إدارة محتملة لدونالد ترامب قد يجعل الأوروبيين أكثر حرصاً على تعزيز استعداداتهم الأمنية بشكل مستقل؛ مع الأخذ بعين الاعتبار، أن تحديد من هو «اليمين المتطرف» بات يشكل مسألة معقدة، حيث تسعى بعض الشخصيات اليمينية مثل جورجيا ميلوني ومارين لوبان لتصبح أكثر اعتدالاً لجذب طيف أوسع من الناخبين؛ في حين يميل السياسيون من يمين الوسط في أوروبا إلى تقليد خطاب اليمين المتطرف بشأن قضايا مثل الهجرة والأمن، مما يعقّد الفروق بينهما.
كذلك فهنالك انقسامات عميقة داخل اليمين القومي نفسه، كما هو الحال بين جورجيا ميلوني وماتيو سالفيني في إيطاليا. وبالتالي، فإنّ التوترات الداخلية والخلافات بين جماعات اليمين المتطرّف حول القيادة والسياسات قد تحدّ من قدرته على تحقيق تغييرات جذرية.
ختاماً، إن سيطرة اليمين المتطرف والشعبويين على السياسة في أوروبا وأميركا قد تؤدي إلى تغييرات جذرية في السياسات الداخلية والخارجية، مما ينعكس بآثار سلبية على الديمقراطية وحقوق المجنسين حديثاً. هذه التغيّرات قد تضعف من مبادئ الديمقراطية، وتعزز الاستقطاب الاجتماعي، وتزيد من التمييز ضد المجنسين، مما يتطلب تحرّكاً مجتمعياً ودولياً للحفاظ على القيم الديمقراطية وحماية حقوق جميع المواطنين.