يدخل لبنان أشد مراحل أزمة المحروقات التي يعيشها منذ نحو 5 أشهر، فالبلاد شبه مشلولة وحركة السيارات انخفضت إلى حد يلاحظه الناس بوضوح ويتحدثون عنه. في الشوارع الرئيسية للمدن والطرقات الدولية الواصلة بين المناطق، الحركة تقتصر على الضروري والطارئ فقط، حيث يستعد اللبنانيون لانقطاع طويل الأجل.
ومع ذلك، لا تغيب زحمة السير عن المشهد، فمداخل العاصمة بيروت أُقفلت لليوم الثالث على التوالي بزحمة طوابير البنزين التي بلغت مسافات قياسية، وتخطت الصف الواحد لتبلغ 4 أو 5 صفوف من السيارات، ممتدة على كيلومترات عدة، كما حصل في منطقة الدورة وزوق مصبح والدامور والجية وصيدا وسن الفيل وطريق المطار، وأينما وجدت محطة بنزين لا يزال فيها مخزون تبيعه في بيروت وباقي المدن اللبنانية.
وبلغت الأزمة ذروتها في الأيام الماضية مع إعلان مصرف لبنان المركزي عن وقف الدعم المالي لاستيراد المحروقات بالعملة الصعبة، بعدما استنزف احتياطاته منها ووصل إلى الاحتياط الإلزامي، وهذا ما سيؤدي إلى ارتفاع قياسي في أسعار المحروقات يتجاوز الـ 400 بالمئة. وهو الأمر الذي اعتبرته الحكومة اللبنانية ورئاسة الجمهورية قرارا منفردا من حاكم المصرف، رياض سلامة، يتحمل وحده مسؤولية نتائجه الكارثية.
هذا التضارب في قرارات الدولة، أدى إلى فوضى في سوق المحروقات توقفت معها الشركات عن التسليم والمحطات عن التوزيع لعدم تحديد سعر البيع، وهو ما اضطر الجيش اللبناني لمداهمة المحطات وأماكن تخزين المحروقات وإجبارها على توزيع مخزونها، إضافة إلى إطلاق حملة مداهمات لمحتكري المحروقات ممن تفننوا في إخفائها وتخزينها طمعا بتحقيق الأرباح وفق الأسعار الجديدة، حيث صادر الجيش المخزون وقام بتوزيعه على المرافق الحيوية المهددة بالتوقف بسبب أزمة الكهرباء والمحروقات كالمستشفيات والأفران والمولدات الكهربائية.
شركات عالمية تُقفل أبوابها
وفي اكتمال لمشهدية الأزمة، بدأت كبرى شركات النفط العالمية بالإعلان، اليوم، عن إقفال محطاتها في لبنان ووقف عملية التوزيع نهائيا بعدما نفد مخزونها تماما، كما هي حال شركة “كورال” التي اعتذرت في بيان أصدرته “من عموم الشعب اللبناني ومن زبائنها لعدم تمكنها، وللمرة الأولى منذ تاريخ تأسيسها، من تزويد المحطات بمادة البنزين اعتبارا من اليوم وذلك لنفاد الكميات في مستودعاتها.”
وتابعت الشركة أن محطاتها ستتوقف تباعا عن تلبية حاجات المواطنين عند نفاد الكميات المتبقية فيها، موضح أنها استوردت باخرة من مادة البنزين نظرا للشح الكبير في الأسواق، إلا أنها لا تزال متوقفة في المياه الإقليمية، منذ تاريخ 11 أغسطس الجاري. بالمقابل، لم تقم الدولة اللبنانية بما هو متوجب عليها لتأمين مستلزمات التفريغ بغية إدخال الكميات المستوردة إلى السوق اللبناني.
وفي تصريح صحفي لممثل موزعي المحروقات، فادي أبو شقرا، أكد أن شركة “كورال” أبلغت المحطات التي تنفد المحروقات لديها أن تغلق أبوابها وتفكك آلات التعبئة، لافتا إلى أن شركة “توتال” الفرنسية في طريقها لقرار مماثل.
بدورها، أعلنت مجموعة محطات الأيتام أنه “بعدما أقفلت 27 محطة من أصل محطاتها الخمسين، ثم أصبحت 22 محطة منها شبه مقفلة لتبقى محطة طريق المطار، اضطرت إلى إقفالها بسبب نفاد مخزون البنزين فيها”، موضحة أنها “أبقت على كمية قليلة جدا للحالات الطارئة، في حين أن كمية المازوت المتبقية تكفي بالكاد ثلاثة أيام فقط”.
كما ناشدت “الشركات والمنشآت تزويد مستشفى بهمن ودار الأمان للمسنين وباقي المراكز الصحية التابعة لمؤسسات المرجع السيد محمد حسين فضل الله ولجمعية المبرات الخيرية ودعمها مباشرة بمادة الديزل لأن مخزونها شارف على النفاد”.
بدوره، أصدر عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات، جورج البراكس، بيانا، اليوم الخميس، طالب فيه السلطات السياسية والنقدية الاتفاق فيما بينها، “فالشعب والقطاع الاقتصادي بين فكي كماشة والبلد يتدمر”، مشيرا إلى أن “مستودعات الشركات المستوردة للنفط بدأ مخزونها بالنفاد، والمخزون في محطات الوقود يكفي لآخر الأسبوع”، محذرا من خطورة “المشاكل التي تحصل على المحطات”.
وناشد البراكس المسؤولين من أجل “إيجاد حل سريع لأن الوضع لم يعد يحتمل على المحطات، رأفة بالشعب وبأصحاب المحطات، لأننا ذاهبون إلى شلل تام إذا ما استمر هذا الوضع، وعلى حاكم مصرف لبنان السماح لباخرة البنزين الموجودة في عرض البحر، بالتفريغ وفق الجدول المعتمد من وزارة الطاقة”.
خسائر الطوابير
وعلى هامش أزمة المحروقات وطوابيرها، أصدرت “الدولية للمعلومات” دراسة كشفت من خلالها عن حجم الخسائر التي تسببت بها طوابير البنزين على المحطات طيلة فترة الأزمة، التي ألحقت خسائر كبيرة في مختلف القطاعات الإنتاجية والاقتصادية.
واعتمدت الشركة، المختصة بإجراء الدراسات والأبحاث والإحصاءات، على آلية حددت من خلالها بالأرقام حجم الخسائر المباشرة التي تكبدها اللبنانيون جراء الانتظار، حيث أشارت إلى أن “عدد السيارات والآليات يبلغ نحو 1.6 مليون سيارة وآلية، منها 1.2 مليون بالحد الأدنى أرغمت على الانتظار لتعبئة خزانتها جزئيا أو بالكامل. بينما هناك ربما نحو 400 ألف من (المحظيين).”
وبحسب الدراسة، فقد “تراوحت فترة الانتظار في الطوابير ما بين 1 – 4 ساعات أي بمتوسط 2.5 ساعة كل 4 أيام، وإذا ما اعتبرنا أن كلفة ساعة العمل هي ما بين 8 – 15 ألف ليرة، مع الإقرار أن بعض المنتظرين هم من العاطلين عن العمل. تكون كلفة الانتظار في كل مرة ما بين 20 – 37 ألف ليرة لبنانية.”
“الدولية للمعلومات” احتسبت تكلفة حرق الوقود واستهلاك السيارة والآلية أثناء فترة الانتظار بمعدل وسطي 10-15 ألف ليرة لكل سيارة في كل مرة (وذلك تبعا لنوع السيارة). مشيرة إلى أن “كل صاحب سيارة أو آلية أرغم على الانتظار خلال فترة الأزمة المستمرة منذ أكثر من 4 أشهر نحو 23 مرة، تكون خسارته ما بين 690 ألف – 1.2 مليون ليرة لبنانية.
وتلفت الشركة إلى أنه “يصعب احتساب كلفة الأمراض والأزمات الصحية الناجمة عن الانتظار والتوتر، وكذلك كلفة التلوث وأيضا زحمة السير لساعات التي سببتها الطوابير والضحايا من قتلى وجرحى الذين سقطوا نتيجة الإشكالات أو الحوادث أمام محطات الوقود، وأيضا كلفة الذين اشتروا البنزين من السوق السوداء بأسعار تراوحت ما بين 200 – 500 ألف ليرة للصفيحة الواحدة. وهناك أيضا كلفة ضياع الإنتاج وتأخير العاملين عن الوصول إلى عملهم”.
وتخلص إلى أن “إجمالي ضياع الإنتاجية نتيجة أزمة فقدان البنزين وبالتالي الطوابير أمام المحطات التي يتحملها أصحاب السيارات والآليات (1.2 مليون سيارة وآلية) ما بين 830 مليار ليرة و 1,440 مليار ليرة حتى الآن. أي بمتوسط نحو 1,100 مليار ليرة، وفي حال استمرار الأزمة فإن الكلفة مرشحة للارتفاع كلما ارتفعت أعداد السيارات المنتظرة”.