لم يكن أحد يتوقع أن يقوم الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين باستحضار مسألة ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، فيما الأنظار مشدودة إمّا إلى عمق البلوك 9، وإما إلى تعديلات قرار التجديد لـ»اليونيفيل»، وإما إلى عروض القوة الجارية على الحدود. لكن اللافت هو استعجال هوكشتاين، في غمرة الانشغالات بالأمن والحدود والطاقة، انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وهذه إشارة لها مغزاها.
يدرك الوسيط الأميركي أنّ أي تفاوض رسمي على الحدود لا يمكن أن يجرى إلا في ظل سلطة كاملة الصلاحيات في لبنان. وهذا يقتضي انتخاب رئيس للجمهورية ثم تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات. لكنّ هوكشتاين الواسع الاطلاع على تعقيدات الواقع اللبناني يدرك أيضاً أن لبنان يتأرجح اليوم على إيقاع التوترات وعملية شد الحبال الجارية في الشرق الأوسط. ولذلك، ليست فيه انتخابات رئاسية في المدى المنظور، ولا حكومة.
على الأرجح، يريد هوكشتاين وضع مسألة الترسيم على النار، في كواليس الاتصالات بين الولايات المتحدة والقوى النافذة في لبنان، على أن يجري تتويجها لاحقاً بمفاوضات واتفاقات رسمية، عندما تحين لحظة الانتخابات واكتمال المؤسسات.
فهو يدرك جيداً، نتيجة تجربته في التوصّل إلى اتفاق ترسيم حول الحدود البحرية، أن المفاوضات دارت في العمق، لفترة طويلة، وفي شكل غير مباشر، مع «حزب الله» لا سواه. وعندما تمّت الصفقة معه، أعطي المجال لمؤسسات السلطة كي تقوم بإجراءات التنفيذ رسمياً، والأصح بروتوكولياً.
لذلك، ترتدي زيارة هوكشتاين الحالية أهمية خاصة في توقيتها والظروف التي تحوطها. فإذا كان طبيعياً أن يحضر الرجل إلى لبنان لمواكبة انطلاق أولى الخطوات العملانية في تنفيذ اتفاق الترسيم، أي التنقيب في البلوك 9، فإنّ إثارته مسألة الترسيم البري تؤشّر إلى ما هو أعمق من الاحتفال بالحدث.
فهل هناك قطبة مخفية، هي الترابط الضمني بين منح لبنان الضوء الأخضر لاستخراج موارده من الغاز وقبوله بإجراء عملية ترسيم في البر أيضاً؟ وفي عبارة أخرى، هل يتضمن اتفاق الترسيم بحراً تفاهماً ضمنياً على الترسيم براً؟ وهل يكون شرط تمكين لبنان من استثمار موارده مرهوناً بموافقته على خطوات أخرى؟
إذا كانت هذه التساؤلات في محلها، فذلك يعني أن شركة «توتال» الفرنسية ليست مُطلقة اليد في عملية التنقيب، ثم في مفاوضة إسرائيل على حصتها من الأرباح، ثم في عملية الاستخراج. كما أنّ الحكومة اللبنانية ليست مطلقة اليد في استثمار مواردها من الغاز، وأن هناك شروطاً على الجميع مراعاتها في هذا الملف.
استطراداً، يذهب بعض أصحاب الشكوك إلى حد التساؤل: هل فعلاً تبيّن لشركة «توتال»، في وقت سابق، أن لا كميات من الغاز كافية للاستثمار التجاري في البلوك 4 أم إنّ ضغوطاً سياسية كانت تقف وراء هذه المسألة، وهو ما ألمح إليه كثيرون آنذاك، ومنهم رئيس الجمهورية السابق ميشال عون؟
وللتذكير، ما زال لبنان يُمنَع، حتى اليوم، من استجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر، على رغم التفاهم الذي أبرَمه مع الطرفين المعنيين. وهذه المسألة تطرّق إليها هوكشتاين أيضاً في زيارته الحالية.
من الواضح أن الجنوب اللبناني يشهد اليوم تصعيداً حاداً للتجاذب بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى. وهو يشكل جزءاً من التصعيد الكبير في التجاذب بين الطرفين على رقعة الشرق الأوسط، لا سيما في اليمن وسوريا، الذي يُنذر بمزيد من الحرائق. ولا يمكن للبنان، والجنوب تحديداً، إلا أن يصاب بلفحات من هذه الحرائق.
وعلى رغم فقدان الانسجام ما بين إدارة جو بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو، فإن واشنطن تراعي إسرائيل في المسائل المتعلقة بأمنها وحدودها ومواردها من الطاقة، وهو ما يدفع الطرفين إلى التنسيق في مسائل لبنان وسوريا.
ضمن هذا السياق، يمكن فهم موقف الولايات المتحدة وحلفائها بالنسبة الى ما يتعلق بالتجديد لـ»اليونيفيل» في الجنوب، والمناوشات الإعلامية الجارية بين إسرائيل و»حزب الله» على خلفية نَصبه الخيمة في مزارع شبعا.
لا تريد طهران أن تتخلى عن بقعة بالغة الأهمية استراتيجياً على شاطئ المتوسط الشرقي، هي لبنان وسوريا، بميزاتها الجيوسياسية ومواردها الهائلة، الملاصقة لإسرائيل والمواجهة لأوروبا. وتمارس واشنطن أقصى الضغوط على إيران لا لإقصائها بالمطلق، بل لدفعها إلى الاقتناع بصفقة «معقولة». ويريد حلفاء الولايات المتحدة الإقليميون، الإسرائيليون والعرب، أن يحصلوا على أفضل ما يمكن في هذه الصفقة.
أما لبنان، فيبدو رهين لعبة الأمم، قريبها وبعيدها، ومكتوب عليه أن يُواظِب على الانتظار الثقيل.