يعكس قطاع النفايات في لبنان مأساة من الفشل المتكرر وهدر مليارات الدولارات، دون أن تتمكن الحكومات المتعاقبة من تقديم حلول مستدامة لهذه المشكلة، التي باتت تشكل عبئا خانقا على المجتمع والبيئة. فقد ضخت مبالغ طائلة في مشاريع على مدار سنوات، لكنها لم ترَ النور أو باءت بالفشل، بينما تتراكم النفايات في الشوارع مهددةً الصحة العامة والتوازن البيئي.
وفي سياق موازِ، ظهر جيل من “النكيشة” الذين يجوبون مكبات النفايات بحثا عن البلاستيك والمعادن، لبيعها في سوق غير رسمي يحقق مليارات الدولارات لمصلحة أطراف خاصة، في حين كان ينبغي أن تعود هذه الإيرادات إلى خزينة الدولة، لتمويل الخدمات العامة التي يحتاج اليها الشعب اللبناني بشدة.
الى جانب كل ما تقدم، يتجسد الاخفاق المنهجي في هذا المجال كرمز صارخ للفساد المستشري، حيث تبذر الأموال عبر صفقات من المناقصات المشبوهة، التي تفوح منها رائحة الرشى في صناديق البلديات. فقد تحولت إدارة النفايات منذ زمن بعيد إلى مسرحٍ للتلاعب والسرقة، حيث تُمنح العقود لشركات بأرقام فلكية دون تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع. لذلك، كان من المفترض ان تؤمن هذه الاتفاقيات حلولاً طويلة الامد، لكنها اصبحت مصدرا للإثراء غير المشروع على حساب المال العام.
انحلال وعجز!
تكشف مصادر متابعة لهذا الملف لـ “الديار” عن “أن أزمة النفايات المحلية تتداخل مع الانحراف المتغلغل، الى درجة أن بعض موظفي البلديات الذين يتوقع أن يكونوا حماة للقانون والمصلحة العامة، باتوا طرفا في مؤامرات تستغل القصّر. هؤلاء الأطفال الذين يتجولون بين الحاويات بحثا عن مواد قابلة لإعادة التدوير، لا يعملون بمعزل عن البالغين، بل في كثير من الأحيان يتورط موظفون في البلديات في صفقات مشبوهة معهم، حيث يوفرون لهم الحماية والتغطية القانونية مقابل حصة من الأرباح”.
واكدت المصادر “ان هذه الممارسات الفاضحة تبين انحراف مؤسسات الدولة عن دورها الأساسي. ففي الوقت الذي يُفترض أن تكون البلديات مسؤولة عن تنظيم إدارة النفايات وضمان تطبيق القوانين، يستغل بعض أفرادها مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية”.
وشددت على “ان هذا الأمر غير قانوني على الإطلاق، إذ يُعد توظيف الاولاد في أعمال كهذه مخالفة جسيمة للتشريعات الدولية والمحلية التي تحظر تشغيلهم، بخاصة في ظروف خطرة كهذه، مما يضع موظفي البلديات المتورطين في تغطية هذه الأنشطة امام المساءلة القانونية بتهم الفساد واستغلال السلطة، مما يعمق أزمة الثقة في المؤسسات العامة”. واشارت المصادر الى “أن موظفا في دائرة النظافة في احدى البلديات المعروفة، يقوم بفرض رسوم يومية “برانية” على العمال السوريين المكلفين جمع وفرز النفايات في مكبات المتن الشمالي”.
“الزبالة” أغلى من الذهب!
وأضافت المصادر “في ظل هذا الواقع برزت ظاهرة “النكيشة”، ومعظم هؤلاء الأطفال هم من النازحين السوريين، الذين ينبشون في النفايات بحثا عن البلاستيك والمعادن القابلة لإعادة التدوير، ليبيعوها في سوق موازٍ يدر أرباحا ضخمة لأفراد قلّة. في مقابل ذلك تفرط الدولة في فرص هائلة لتحصيل عائدات، كان من الممكن ان تساهم في تحسين الخدمات العامة ودعم البلديات المنهكة”.
بالإضافة إلى كل ذلك، تضيف المصادر، جاءت كارثة تدمير معمل فرز النفايات في الكرنتينا، الذي كان يُعد أحد النماذج القليلة لمحاولات تنظيم القطاع، حيث قضى انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 على هذا الأمل، مضاعفا أزمة النفايات التي باتت تشكل تهديدا بيئيا وصحيا حقيقيا، ودافعا إضافيا لإصلاح قطاع ينخره الانحراف والتبذير”.
وقاحة ام قوة شخصية!
وخلال الأسبوعين الماضيين، تابعت “الديار” مشهد مكبات النفايات في منطقة الأشرفية في بيروت، وكشفت عن وجود أكثر من 30 ولدا ينقبون في النفايات، وتتراوح أعمارهم بين 9 و12 عاما. وقد أفاد معظم هؤلاء الأطفال بأنهم يعملون لمصلحة شخص يدعى محمد الحرير الذي يتولى شراء الأكياس التي يجمعونها، وينقلونها الى بؤرة في زقاق البلاط. ويتعين على كل طفل تسليم نحو 5 أكياس بوزن إجمالي يقدر بنحو 7 كيلوغرامات، مقابل 500 ألف ليرة لبنانية.
اللافت في الامر، ان أحد الأطفال قال بسخرية عند استفسارنا عن المبلغ الذي يتقاضونه في نهاية يوم عملهم “شو في بيناتنا مزح”! تسلط هذه الحالة الضوء على أبعاد جديدة من استغلال الأطفال في العمل، وتظهر العقبات الكبيرة التي تواجه هذا القطاع”.
الذباب يسرح ويمرح!
وأكد ناشطون بيئيون لـ “الديار” ان “ظاهرة انتشار الذباب ترتبط بشكل مباشر بالمخلفات المنبوشة”، موضحين ان “فلش أكوام الفضلات من قبل النكيشة أو غيرهم، يعرض المحتوى الداخلي لهذه النفايات للعوامل الجوية والهواء، مما يسرّع من عملية التحلل العضوي. وينتج من هذا التفكك تفشي روائح كريهة ومواد عضوية متعفنة، مما يجذب الذباب والحشرات الأخرى بكثافة”.
وأشاروا الى “أن الذباب يتكاثر بشكل خاص في البيئات التي تحتوي على مركبات طبيعية فاسدة ، مثل بقايا الطعام والفواكه والخضراوات، والتي تصبح مكشوفة نتيجة لنبش القمامة، عندما تتزايد الحشرات في هذه الظروف. ولا تقتصر المشكلة على الإزعاج فقط، بل تتحول إلى مصدر لنقل الأمراض، حيث يمكن للذباب نقل البكتيريا والفيروسات من النفايات إلى الأماكن السكنية، مما يضاعف مخاطر التلوث الصحي”.
وختموا “تؤدي مشكلة بعثرة النفايات إلى خلق بيئة مثالية لانتشار الذباب والحشرات الأخرى، مما ينعكس سلبا على الصحة العامة وجودة الحياة في المناطق المتضررة”.
هل يبصر قانون ضبط
وتنظيم قطاع النكيشة النور؟
مؤسس إدارة نفايات لبنان بيار بعقليني قال لـ “الديار”: “تتعدد أوجه قضية “النكيشة” بين الأبعاد الإيجابية والسلبية، بحيث يتجلى الجانب السلبي في الفوضى التي يسببها هؤلاء الأشخاص، حيث ينشرون الأوساخ جراء عمليات التنقيب التي يقومون بها، بحثا عن العبوات البلاستيكية والحديدية والأشياء القابلة لإعادة التدوير. ويلوث غالبية العاملين في هذا المجال المساحات المحيطة بحاويات القمامة”.
وأوضح “ان هذه المسألة تتطلب قانونا ينظم عمل “النكيشة”، وقد تقدمنا بالتعاون مع وزارة البيئة باقتراح يعالج النواحي الإيجابية لهذه القضية”. وأضاف “صحيح أن المنقبين ينثرون النفايات على الأرض لانتقاء المواد القابلة لإعادة التدوير، إلا أن هذه المكونات، بدلاً من أن تنتهي في المطامر، تُرسل إلى معامل الفرز وإعادة التدوير، مما يساهم في الدورة الاقتصادية. لذلك من الضروري تنظيم هذا المجال، ويجب على البلديات فتح الباب أمام الراغبين في العمل ضمن هذا القطاع، على أن يتم ضبطه من خلال منح العاملين بطاقات تحمل أرقاما، بحيث يكون كل فرد مسؤولاً عن نظافة الحاويات ومحيطها”.
وتابع: “في بعض دول العالم، يعتمد نظام إعادة التدوير بشكل كبير على “النكيشة”. فعلى سبيل المثال تصل نسبة العاملين في هذا المجال في البرازيل إلى أكثر من 60%، حيث يتمتع الشغّيل بالكفاءة المطلوبة لجمع العناصر القابلة للتدوير، مما يسهم في عملية الفرز”.
وفي ما يتعلق بشرعية هذا العمل، قال: “أعتقد أن الأثر الإيجابي والنتيجة هما الأهم، لكن من الضروري إقرار قانون ينظم هذه الحرفة، مما يساعد البلديات في تخفيف الأعباء عنها. اذ ينفق القطاع البلدي أموالاً طائلة لدفن النفايات، بينما يمكن استغلال جزء منها في إعادة التدوير والحفاظ على النظافة”.
وتابع “يلزم المنقّب بدفع الاشتراكات للبلدية ليتمكن من العمل ضمن نطاقها، ويكون مسجلا بشكل شرعي لديها، ويحاسب في حال ارتكاب أي مخالفة، أو إذا لم ينظف الأوساخ بعد الانتهاء من النبش وترك القمامة مبعثرة حول الحاويات”.
وختم بعقليني: “يجب التركيز على الجانب الإيجابي لهذه القضية، وان نسعى لتحسين وتطوير هذا القطاع وادارته بشكل احترافي. بهذا، نساهم في رفع نسبة الفرز في البلديات اللبنانية كافة، بدلاً من أن تنتهي هذه النفايات في مواقع الدفن، مما يكبد خزينة الدولة مليارات الدولارات لطمرها”.
صفر خسائر!
من جانبها، اوضحت خبيرة وصاحبة مؤسسة لإعادة التدوير لـ “الديار” ان “الرسكلة تعتبر من الركائز الأساسية للحفاظ على البيئة وتقليل الأضرار الناتجة من تراكم النفايات. وتكتسب هذه العملية أهمية خاصة في لبنان، حيث تتزايد التحديات البيئية والاجتماعية”. وأشارت الى الامور الرئيسية الاتية:
1- حماية الموارد الطبيعية: تساعد “الرسكلة” في تقليل الحاجة إلى استخراج المواد الخام من الطبيعة، مثل النفط المستخدم في إنتاج البلاستيك، والأشجار في صناعة الكرتون، والرمال في إنتاج الزجاج، ويساهم هذا التوفير في الموارد في الحفاظ على البيئة للأجيال القادمة.
2- تقليل التلطخ البيئي: يسبب البلاستيك على وجه الخصوص تلوثا طويل الأمد نظرا لبطء تحلله. وتقلص معالجته من كميته في المكبات والمحيطات، مما يساعد في الحد من تدنّس الهواء والمياه والتربة. بالنسبة للزجاج والكرتون، تقلل عملية إعادة التصنيع من معدلات النفايات. وبالتالي تخفف الانبعاثات الناجمة عن حرقها أو دفنها، بالإضافة الى ادخار الطاقة، ودعم الاقتصاد، وتخفيض الضغط على المطامر وحماية الحياة البرية”
وختمت ” الرسكلة ليست مجرد خيار بيئي، بل ضرورة اقتصادية واجتماعية وبيئية، تسهم في بناء مستقبل أكثر استدامة وأمانا للجميع”.