ناديا غصوب – نداء الوطن في سباق مفتوح بين الضرورات المالية والتعقيدات السياسية، يبرز قانون الفجوة المالية كأحد أكثر الملفات حساسية في لبنان، وسط انقسام حادّ حول آلية توزيع الخسائر بين الدولة والمصارف والمودعين. فالقانون، المفترض أن يكون مدخلًا لإعادة الانتظام المالي واستعادة الودائع، يصطدم بملاحظات صندوق النقد الدولي وبخلافات داخلية تتجاوز الجانب التقني إلى حسابات سياسية عميقة. وفي ظلّ تداخل الملف الاقتصادي مع القضايا السيادية والأمنية، يتحوّل السجال السياسي إلى أداة إطالة الأزمة، بينما يبقى المودعون أسرى الانتظار، يدفعون ثمن المماطلة والتجاذب في بلد لم يحسم خياره بعد بين المحاسبة أو الاستمرار في الفشل.
اليوم، تُستغلّ “الفجوة المالية” كقناع للتهرّب من المسؤولية. الرقم الكبير الذي يُطرح أمام الناس ليس مجرد حساب اقتصادي، بل أداة سياسية لتبرير شطب الودائع وتحميل المجتمع كلفة الانهيار، فيما من صنع هذا الانهيار وأدار النظام المالي يظلّ بمنأى عن أي مساءلة. رئيس الحكومة نواف سلام، بدعم من مجموعات مثل “كلنا إرادة”، يقدّم هذا الرقم كأمر واقع لا نقاش فيه، ويروّج له تحت شعارات الإصلاح والواقعية، متجاهلًا أن معالجة الأزمة الحقيقية تبدأ بمحاكمة المسؤولين عن السياسات الكارثية، لا بتحميل الطبقة الوسطى والفئات الأضعف أعباء ما لم يتسبّبوا فيه.
هنا يظهر دور ديوان المحاسبة، الهيئة الرقابية العليا على المال العام، المفترض أن يكون خط الدفاع الأول ضد الهدر وإعادة الأموال المنهوبة. لكنه عمليًا عاجز، طالما لم يُمنح الغطاء السياسي المطلوب لتحويل الرقابة إلى محاسبة فعلية. نظريًا يمتلك الديوان صلاحيات واسعة، من التدقيق في الدين العام والعقود والهندسات المالية، إلى إحالة المخالفين على القضاء، لكنه يظلّ مقيّدًا أمام منظومة سياسية متواطئة تُفرض عليها الفجوة المالية.
الفجوة المالية، المقدّرة بعشرات مليارات الدولارات، ليست حدثًا عابرًا، بل نتيجة تراكم سياسات كارثية: والسؤال: كم سيخسر المودع؟ بدل السؤال الجوهري: من تسبب في الخسائر ومن يجب أن يتحمّلها؟أي معالجة للفجوة المالية لا تبدأ بتحديد المسؤوليات هي معالجة ناقصة وخطيرة. القفز مباشرة إلى توزيع الخسائر من دون مساءلة الدولة ومصرف لبنان يعني عمليًا تحويل المودعين من ضحايا إلى مموّلين قسريين للانهيار. فالتعامل مع الودائع كما لو كانت أموالًا افتراضية قابلة للشطب، بينما تُتجنب الأسئلة الأساسية حول كيفية استخدامها ومن استفاد، هو استهزاء بالناس وطمس للحقيقة.
مشروع قانون معالجة الفجوة المالية يُسوَّق كخطوة لإعادة الثقة، لكنه، في قراءة بعين نقدية، يتحوّل إلى إطار قانوني لإدارة الإفلاس بدل معالجته. حماية صغار المودعين لا معنى لها إذا جاءت على حساب شطب غير معلن للودائع بفعل التضخم وسعر الصرف، أو تحويل الخسائر إلى أدوات مالية طويلة الأجل من دون أي ضمانات فعلية.
الدولة التي ترفض الاعتراف بمسؤوليتها عن الانهيار، وتتهرّب من إصلاح ماليتها العامة، لا تملك شرعية أخلاقية لتقرير مصير ودائع المواطنين. وديوان المحاسبة، رغم مكانته النظرية، يظلّ مقيّدًا سياسيًا، وغياب الإرادة السياسية يحوّل التشريع إلى أداة حماية للمنظومة بدل محاسبتها. الأخطر ليس حجم الفجوة المالية، بل تطبيع الفشل، وتحويل الخسائر إلى قدر يُجبر الناس على التكيّف معه.
الفجوة المالية ليست قدرًا محتومًا، بل نتيجة اختيارات. العدالة المالية ليست رفاهية، بل شرطًا للاستقرار. إما قانون يعيد الاعتبار لمفهوم الدولة والمسؤولية، أو قانون يشرعن الانهيار ويحوّل المواطنين إلى ضحايا دائمين. وفي بلد فقد فيه المواطنون الثقة بكل شيء، يصبح اعتياد الفجوة أخطر من الفجوة نفسها.


