كانت ثورة في الصناديق. سبح فيها اللبنانيون عكس كل التيارات. فيما غرق الآخرون في بركة صغيرة بأحد أحياء بيروت. ما جرى يشير بوضوح إلى الحيوية لدى المجتمع اللبناني بكل أطيافه. فقد شكّلت الانتخابات النيابية منعطفاً تاريخيًا، أسس لدخول مجموعات الثورة والاعتراض إلى البرلمان. وهذا يحمل معه متغيرات كثيرة، من المسار السياسي إلى المسارات التشريعية، ومن أصغر التفاصيل إلى أبعد الاستراتيجيات. تحتاج النتائج المدوية إلى قراءات متعددة في محاولات لاستقراء التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع.
انتصار رغم الأنانيات
في المسارات السياسية، كان يمكن تحقيق انتصار بارز لما كان يعرف بقوى 14 آذار، إضافة إلى قوى المجتمع المدني التي حققت نتائج كبيرة. فلو توحدت قوى 14 آذار، ولو توحدت قوى المجتمع المدني، لكان حصل تغيّر كبير في موازين القوى. ثمة أخطاء وأنانيات كثيرة أدت إلى الخسائر، لا سيما في بيروت وطرابلس والبقاع الغربي والبقاع الشمالي، وكذلك في البترون وكسروان-جبيل.
سقوط خيار الحريري
إلى جانب سقوط هذه الخيارات، كان هناك سقوط للكثير من الرهانات. فخيار سعد الحريري بالمقاطعة ومحاولة نقل السنّة إلى 8 آذار وحزب الله لضمان عودته إلى السياسة، سقط بشكل مدّو. أولًا من خلال نسبة الاقتراع في المناطق السنية. وثانيًا من خلال خيار الناس التي ذهبت للتصويت لصالح القوات اللبنانية. وهذا السقوط أدى إلى تشظ كبير في ما تبقى من تيار المستقبل على الصعيد التنظيمي. فأسقط الحريري المعيار السياسي لصالح المعيار الشخصي أو العائلي، وأعاد صيدا مثلًا إلى العائلية مقابل خروج آل الحريري من المعادلة. على الرغم من أنهم ذهبوا إلى حجب أصواتهم عن يوسف النقيب نكاية بالسنيورة. كما أسقط السنّة نظرية ضرورة سعد الحريري لضمان الطائفة السنية والاستقرار.
ما قاله السنّة ينطوي على تحول كبير في المجتمع. خرجوا من عباءة المستقبل الحاضر والسابق، لصالح قوى التغيير، فأظهرت ناخبًا صامتًا اتجه نحو التغيير. وهذه الانتخابات تشبه إلى حدّ بعيد انتخابات العام 1972 حين اختار السنة نجاح واكيم على حساب شخصية بيروتية تقليدية وتاريخية. وتشبه اختيار عبد المجيد الرافعي في طرابلس على حساب التقليديين.
انتصار القوات
النقطة الثانية المهمة هو الانتصار الذي حققته القوات اللبنانية، وهو لا يقاس فقط بحجم أعضاء الكتلة وعددهم، إنما برمزية المعارك التي خاضتها القوات من طرابلس إلى بعلبك الهرمل وصيدا-جزين.
وضعت القوات اللبنانية ضمن إطار الكتلة المسيحية الأقوى. وهذه ستكون لها تبعات في استحقاق انتخاب رئيس مجلس النواب، خصوصًا بحال ركن البعض إلى معادلة الأكثر تمثيلًا في طائفته، أي الرئيس نبيه برّي. حينها قد يخرج من يطالب باحترام ذلك على صعيد رئاسة الجمهورية.
تصويت عقابي
شيعيًا، لم ينجح حزب الله برفع نسبة الاقتراع كما كان يريد. وهنا ظهر التراجع لديه داخل البيئة الشيعية، فيما كان التصويت لدى الطوائف الأخرى عقابيًا ضد حلفاء الحزب في دوائر مختلفة. في دائرة الجنوب الثالثة، وصيدا وجزين والشوف عاليه وغيرها. وكل محاولات التخويف لم تنجح. إذ تم خلق كتلة نيابية وازنة ومعارضة لسياسات حزب الله.
أما الأهم فهو وصول شخصيات تغييرية إلى البرلمان. وهو مؤشر إلى تحقيق اختراقات كبرى في صفوف العائلات السياسية التقليدية، لا سيما في الشوف وعاليه، والنتيجة المتواضعة للمردة في دائرة الشمال الثالثة. وهذا يعني تضعضع البيوت السياسية التقليدية لصالح مجموعات تغييرية.
السيناريو العراقي؟
فرزت الانتخابات النيابية مشهدًا سياسيًا جديدًا انتقل من ثنائية 14 آذار و8 آذار، إلى ثلاثية حزب الله وحلفائه، مقابل القوات اللبنانية وحلفائها، وطرف ثالث يتمثل بالقوى التغييرية. وبلا شك أن هذا المشهد سيؤدي إلى تعقيدات كثيرة في صوغ التسويات السياسية وآلية صنع القرار، وخصوصًا في ثلاثة ملفات أساسية: انتخاب رئيس مجلس نيابي ورئيس للجمهورية، والاتفاق على حكومة جديدة. والملف الثالث يشمل الجوانب المالية والاقتصادية والاجتماعية وكيفية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وهذا قد يؤدي إلى تكرار السيناريو العراقي: أي استمرار الأزمة السياسية والتعقيد، إضافة إلى انعدام قدرة حزب الله على فرض أي من مرشحيه لرئاسة الجمهورية. وهذا يأخذ المشهد السياسي أكثر إلى نقاش جديد حول الصيغة اللبنانية. وقد يكون هذا المجلس النيابي هو الأخير الذي يمثل جمهورية الطائف، وفق الواقعية المحوّرة التي فُرضت في تطبيقه.