لا أحد كان، وسيكون، ببراعة ياسر عرفات في ابتداع الألقاب، لا سيما الألقاب العسكرية والأمنية، وفي ابتداع أصحاب الألقاب، حتى أنه أنشأ 12 جهاز استخبارات حال قيام السلطة الفلسطينية بصلاحياتها الفولكلورية في الضفة والقطاع، دون أن يكون الهدف اختراق “الموساد”، وقد دفن القضية بقضّها وقضيضها تحت الثلوج والورود الاسكندينافية، بل تجسس الفلسطينيين على الفلسطينيين…
هذه كانت حال اللواء منير المقدح، بانتظار أن يترقى الى رتبة ماريشال لدى انتهاء المعارك الحالية. لكن الرجل آدمي لا يدّعي، وهو يقود قوات “فتح”، انه عسكرياً بكفاءة الجنرال دوغلاس ماك آرثر، وسياسياً بحنكة عمر بن العاص. لا يستسيغ الولوج في الدم، وكل ما نذكره من لقاءاتنا معه أنه كان يقدم لنا ذلك الشاي الذي بنكهة النبيذ!
المقدح يعلم كم أن اللعبة باتت عبثية في المخيم، الذي تحول برأيه الى مستنقع لأجهزة الاستخبارات، وهي التي تتولى برمجة المعارك، وادارة تلك المسرحيات الهزلية التي تنتهي عادة بوقف النار. هنا التساؤل اذا كانت المعادلة التي تحكم الوضع هي معادلة توازن الرعب، أم هي معادلة توازن المصالح؟
الثابت أن حركة “فتح” التي يفترض أن تكون القوة المركزية في المخيم قد ترهلت. بالكاد تجد عنصراً من تشكيلاتها الأمنية أو العسكرية لا تثار حوله الشكوك. فسيفساء معقدة. هذه حال المخيم. تصوروا وجود أنفاق وكهوف تحت منازل تتداخل على نحو سريالي، وحيث لا حدود للبؤس بكل اشكاله…
هذا ما استغله الاسلاميون الذين وصفهم أحد مسؤولي “الجبهة الشعبية ” بـ “الثعابين البشرية”، وربما بالتواطؤ مع بعض قيادات “فتح”، للسيطرة على أحياء باتت بمثابة غيتوات خاصة بهم، مع استقطاب الفتيان بالاثارة الدينية (الاثارة الغرائزية)، وهم الذين يخططون للامساك بمفاتيح المخيم، بل وللامساك بمفاتيح صيدا، كمدخل الى الجنوب وما يعنيه الجنوب في خارطة الصراع مع “اسرائيل”.
متى أطلق ذلك النوع من الاسلاميين، حتى في الضفة رصاصة واحدة ضد جنود الاحتلال. طريقة تأويلهم للنص الديني، وكذلك طقوسهم، تشي بكونهم ظاهرة غرائبية، ظاهرة هجينة. انظروا الى قادتهم (اذا كنتم تتذكرون شكل أحمد الأسير الذي كان يدار من “الموساد”)، ألا يشبهون “الحاخامات”؟ ظواهر (ومظاهر) حاخامية. هذا كلام مثقفين فلسطينيين في الدياسبورا.
هؤلاء المثقفون لا يرون في قادة الفصائل أكثر من رسوم متحركة، لأن من يضعون أيديهم على المخيم موجودون في الأقبية وفي الزوايا، ما يثير الأسئلة حول استمرار المخيم كمستوطنة كوسموبوليتية لأجهزة الاستخبارات عند بوابة الجنوب، في حين لا يعلم أحد الى أين تمضي الرياح بلبنان وباللبنانيين. بالفلسطينيين بطبيعة الحال الذين لا يمكن لهم البقاء داخل تلك الزنزانة.
الأهم لماذا السلاح في المخيمات؟ للدفاع عن النفس في وجه مَن؟ ما من مرة استخدم هذا السلاح ضد “الاسرائيليين” حتى ابان الاجتياح عام 1982، حين هرب “الأبطال الثلاثة” أبو الجماجم وأبو الهول وأبو الزعيم تحت جنح الظلام الى البقاع، ليتركوا أهلهم بين براثن البرابرة.
هذا السلاح خطير، وخطير جداً، ويزعزع الأمن الاستراتيجي للدولة اللبنانية، وقد أظهرت التطورات أنه يقتل الفلسطينيين، ويدمر منازلهم، ومصادر رزقهم، تماماً كما يفعل السلاح “الاسرائيلي” في القدس وفي جنين.
أولئك الذين احتلوا سفوح السلسلة الشرقية، اذ دفنوا جنودنا وهم أحياء، كما أفرغوا رصاصهم في رؤوس ضباطنا، هم الآن في قلب لبنان، وقد أعدوّا العدة لتلك اللحظة التي يخرجون فيها من المخيم.
ندرك أن هناك بين أهل السلطة في لبنان مَن لا يثق ببعض قيادات “فتح”، الذين تتلمذوا على يدي ياسر عرفات كنتاج لـ “لخاحام” الأكبر، ومؤسس “الاخوان المسلمين”، حسن البنا الذي كانت أفكاره وراء ظهور ثقافة تورا بورا في العديد من البلدان العربية والاسلامية.
الطامة الكبرى أنه ممنوع على الدولة اللبنانية أن تستجيب لصيحات الاغاثة، وتدخل الى المخيمات لتنظيفها من ديناصورات العصر الحجري.
غداً يمنع عليها أن تدخل الى المخيمات السورية ـ وهذا متوقع جداً ـ ثم نتحدث، بمفهوم السيادة عن الاستراتيجية الدفاعية. يا لسذاجتنا!!…