l
ما الذي جلب إلينا هذا الويل الاقتصادي والنقدي، الذي نغرق فيه اليوم؟ سؤال يشغل بال اللبنانيين في الوقت الحاضر. كل الحديث عن صروح وهيكليات مشهوداً لها بضخامة حجمها المؤسساتي والمالي والتوظيفي سقطت في لحظة واحدة. كل المستور انكشف، وها هو لبنان يواجه امتحاناً خطيراً لدوره، ونظامه المالي، والاقتصادي. على ضوء هذا المستجدات، كيف يقرأ وزير المالية السابق والخبير الاقتصادي الدكتور “جورج قرم” الوضع؟
لبنان جمهورية مصرفية عقارية
يلفت “جورج قرم” في حديثه لـ “أحوال” إلى أنّ النظام الذي تم تأسيسه بعد الطائف على ثنائية النقد في لبنان “ليرة ضعيفة مقابل دولار قوي”، هو نظام يفتقد إلى التوازن؛ ويقول: “كان هناك قواعد لعبة تؤمّن أرباحاً فاحشة لكبار المستثمرين وحتى للمودع العادي من أصحاب الودائع الصغيرة، وطبعاً ليس بنفس حجم استفادة الكبار الذين استفادوا أيضاً من سياسة الفوائد العالية على الليرة اللبنانية”، إضافة إلى تثبيت سعر الصرف، وهذه أسباب جوهرية في الوضع المأساوي الذي نعيشه اليوم”.
قرم يشير أيضا إلى أن الجريمة الكبرى التي حصلت تمثلت في تثبيت سعر الصرف. ويضيف: “كانت اللعبة خلال جمهورية بعد الطائف تقضي بأن يستدين المستثمرون الدولار بـ 6-7 % فائدة، ويوظفونه بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي وصلت فائدتها إلى 40% من دون أي مخاطرة في ظل سعر صرف ثابت، وهذا أسوأ نظام يمكن أن يتخيّله العقل”.
إلى ذلك، دعا قرم إلى أخذ العبر من السنوات الماضية، مؤكدًا أن “نظام سعر الصرف الثابت هو الشواذ بعينه ولا يوجد اليوم أي دولة في العالم تعتمده”. مضيفاً، “لبنان جمهوريّة مصرفيّة وعقاريّة، ولسوء الحظ ّ ستبقى المصارفُ على هيمنتها الثقيلة والسخيفة”؛ معتبراً أننا في لبنان مازلنا نحيا في ظلّ ديكتاتوريّة مصرفيّة غريبة الشكل لا مثيلَ لها في العالم، ومخالفة تمامًا لحقوق الإنسان.
الحريرية السياسية أولاً
يُحمّل جورج قرم مسؤولية ما وصلنا إليه من أوضاع الى الحريرية السياسية أولاً ومصرف لبنان ثانياً، وهو يقول: “كانت الأزمة التي أسقطت حكومة الرئيس عمر كرامي مفتعلة. ففجأة، قفز سعر الليرة اللبنانية من 800 ليرة للدولار إلى 2900-3000 ليرة. وإذ أسهمت هذه الأزمة في الإتيان بالرئيس رفيق الحريري، والذي في عهده أصبحنا في الجمهورية الثانية، التي قامت على الإستفادة من الفرق بالفوائد بين الدولار والليرة اللبنانية، كأحد أسس الاقتصاد الريعي الذي لا بد أن يؤدي إلى انهيار في نهاية المطاف. وهذا ما حصل، إذ بدأت تتجمع ثروات طائلة من دون قاعدة إنتاجية، ووصلت ميزانية المصارف اللبنانية مجتمعة لتعادل أربع مرات الناتج الوطني اللبناني؛ وهذا عنصر شاذ سلبي أدى ليصبح الجهاز المصرفي بعد سنوات بضخامة مكلفة للإقتصاد، وهذا يعني أنّ المصارف ستسحب من الناتج الوطني ما يؤمّن أرباحه. ويضيف: “ما زاد الطين بلّة، تداخل مصالح السياسيين مع المصارف حيث نجدهم ممثلين في مجالس إداراته”.
مصرف لبنان شريك في الجرم
أما عن دور مصرف لبنان في الإنهيار الحاصل، فيشدد “قرم” على أن “مصرف لبنان مسؤول عن حالة التخبط في سعر صرف الدولار ومسؤول أيضا عن بروز أكثر من سعر للصرف”، مشيراً إلى أنّ الحل يكون بتخفيض العجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري. وطالما أن هناك عجزاً هائلا ستبقى الليرة اللبنانية ضعيفة ومتأرجحة؛ وفي الوقت نفسه نحتاج إلى وقت كي نصل إلى الإقتصاد المنتج.
ويردف، من الأخطاء الكبيرة والمقصودة التي تم ارتكابها أيضا هو إجراء مقاصة الشيكات بالدولار، أي بمعنى أن الدولار أصبح عملة داخلية على قدم المساواة مع الليرة اللبنانية. وبما أنّ الدولار عملة قوية، فقد غلب الليرة اللبنانية التي استعملت فقط لجني مزيد من الأرباح.
الإصلاحات قبل الاستدانة
وعن مراهنة البعض على صندوق النقد الدولي وبعض القروض والهبات كحل مؤقت، يدعو وزير المالية السابق إلى قيام إصلاحات جدية، مشدداً على أن لبنان بحاجة إلى سلّة من الإصلاحات وحركة إصلاحية كبيرة للغاية قبل أي شيئ أخر. ويتابع، طالما نحن مستمرون في السياسات الإقتصادية نفسها، فلن نجد أمامنا من خيار سوى صندق النقد الدولي؛ مضيفاً “الذهاب إلى صندوق النقد الدولي يعني أنه ستكون بإنتظارنا شروط سياسية قاسية من الولايات المتحدة الأميركية، والتي هي المموّل الأكبر للصندوق”.
قرم يدعو إلى التركيز على قطاعين مهمين في عملية النهوض الإقتصادي؛ الأول هو قطاع المعلوماتية، والذي وصلت إنتاجيته إلى حد أنّه بات هناك شركات أجنبية مستعدة لشراء خدماته بأسعار عالية. أما القطاع الثاني، فهو قطاع السياحة الداخلية، والذي شهد نمواً كبيراً في الفترة الأخيرة. كما يدعو أيضا إلى إيلاء قطاعي الزراعة الإهتمام الكافي، مشيراً إلى أنّ لبنان على سبيل المثال كان ينتج بذوراً زراعية بجودة عالية بينما أصبح اليوم يستورد كل أنواع البذور “صرنا اليوم نستورد حتى بذار الخس”.
تضخم متواصل
لا يغفل قرم عن تأثير الازمة السورية على الأوضاع الاقتصادية في لبنان. “بعد إغلاق التصدير عبر سوريا عند انقطاع الطريق البرية، تقلّصت الصادرات اللبنانية من 4 مليارات إلى 2.5 مليار دولار؛ ومن المفروض أن يكون هناك حكومة مسؤولة في لبنان تتفاوض مع الجهة السورية لإعادة الأمور إلى كما كانت عليه في هذا القطاع”.
قرم يدعو أيضاً إلى الغاء إتفاقات التبادل الحر مع كل الدول العربية والاتحاد الأوروبي كونها تتعارض مع مصالح القطاعين الصناعي والزراعي في لبنان. ويضيف قائلاً: “خضنا في أيام حكومة الرئيس الحص معركة طاحنة لنحافظ على دعم زراعات التبغ كونها آخر زراعة تمارسها العائلات اللبنانية الريفية، وكذلك دفعنا مجلس الوزراء إلى اتخاذ قرار يسمح للصناعيين بإستيراد الفيول مباشرة” مشدداً على أن لبنان لا يمكن له أن يستمر في ظل العجز الكبير في الميزان التجاري الحاصل اليوم وبالتالي في ميزان المدفوعات. ويتابع: “بات من الواضح إننا نعيش حالة تضخم بشكل متواصل ومتزايد، وهذا التضخم هو نوع من “الهيركات” على الودائع، وبات واضحاً أيضاً حجم التراجع في القدرة الشرائية مما يسبب مشاكل كبيرة خصوصا للفئات الفقيرة والمتوسطة في المجتمع اللبناني”.
النظام المصرفي وإنعدام الثقة
قرم يرى أنّ النظام المصرفي في لبنان إنهار ويحتاج إلى سنوات طويلة من الإصلاح ليتمكّن من استعادة ثقة اللبنانيين والمنطقة وحتى المجتمع الدولي؛ لافتاً إلى ما قام به شخصياً من تخفيض الفوائد من من 22 بالمئة إلى 14 بالمئة، عندما كان وزيراً للمالية في حكومة الرئيس سليم الحص. ويتابع قائلاً: “كان ذلك في ظل ظرف دقيق يمر به لبنان نتيجة المعارك الدائرة في الجنوب اللبناني، و”كنا نتحمل الضربات الإسرائيلية على الكهرباء وغيرها من مرافق الدولة اللبناني، ولم أطلب حينها مساعدة من الخارج”. في المقابل، يدعو أيضاً إلى التخلي عن طلب مساعدة صندوق النقد الدولي، والشروع فوراً إلى إقفال صناديق المهجرين والجنوب، وإلى حسم موضوع الكهرباء بشكل نهائي في ظل وجود عروض صينية وروسية وإيرانية”، مشدداً على ضرورة حسم قضية أصحاب المولّدات، والتي أصبحت جزءاً من الإقتصاد الريعي الذي جب أن نتخلص منه. نبيل المقدم