عادةً ما تعكس القمم العربية حال العرب في لحظة انعقادها. وقمّة جدة ليست استثناءً، وإن كانت حوَت الكثير من المفارقات التي تجعلها قمّة غير عادية بكلّ المقاييس. والأكثر إثارة فيها هو أن عدداً لا يستهان به من الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها، وبتحديدٍ أكثر السعودية، غادرت موقع “البصم” على الإرادة الأميركية، كما كان يحصل سابقاً. وبالتالي أغضبت الأميركيين، قبل أن تمنحهم جائزة ترضية تمثّلت في دعوة مدلّلهم في عالم اليوم، الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، كنوع من التوازن مع الحضور الطاغي للرئيس السوري، بشار الأسد. الاغتراب العربي عن أميركا له أسبابه العميقة، ولعلّ في طليعتها أن “البصم” كان له مقابله الذي هو الحماية من كلّ الأعداء المفترضين، إلّا العدو الحقيقي (للشعوب)، وهو إسرائيل، فإذا بهذه الحماية تتلاشى، بل تتحوّل إلى نوع من التآمر على الأنظمة نفسها، كما ظهر خلال “الربيع العربي”، حين غدرت واشنطن بحلفائها الذين تَفترض أنهم أدواتها. لكنّ المحاولة تلك فشلت، إنّما بعد أن هشّمت الأنظمة أيضاً، وليس الشعوب وحدها، وتركتها تبحث عن ترتيبات جديدة تضمن بقاءها.
“الكْلاش” الحاصل مع الأميركيين، يفيد بأن الثقة بهم في المنطقة تساوي صفراً، واستتباعاً بحليفتهم إسرائيل. إلّا أن ذلك لن يُترجَم لغة متقدّمة في ما يتعلّق بالصراع مع العدو. فالذي لم يفعله العرب لفلسطين طوال أكثر من سبعين عاماً لن يفلحوا في القيام به اليوم. ومع هذا، فإن عمليات التقارب الحاصلة في المنطقة تفترض حكماً، تخفيف اللهجة التي كانت تُعتمد في القمم السابقة حيال “محور المقاومة”، بدوله وفصائله. ويوحي القرار السعودي الحازم والسريع بعودة سوريا إلى “الجامعة العربية” ودعوة الأسد إلى حضور القمة، بأن ابن سلمان يريد استخدام المؤتمر كمنصّة أخرى للضغط على الأميركيين، إضافة إلى علاقاته بالصين وروسيا. فهذه العودة تقدّم ما يُسمّى “جناح الصقور” بين الدول العربية، ولكنها في الوقت نفسه تكرّس زعامة سعودية ما على المستوى العربي، يُتوقّع أن يَجري تظهيرها أكثر في الفترة المقبلة باستخدام إمكانات المملكة، في ظلّ غياب مصر وتراجع دور سوريا بفعل الأزمة الممتدّة فيها. وإذ فاجأ قرار إعادة دمشق إلى مقعدها المعارضين للنظام السوري الذين أُسقط في يدهم، فقد سارع هؤلاء إلى ابتداع أدبيات جديدة تنسجم مع التوجّه السعودي الجديد، وقد لا يطول بهم الوقت حتى يتحوّل هجاؤهم للنظام السوري إلى مديح.
ومع ذلك، من غير المتوقّع أن يتطوّر “الكلاش” السعودي – الأميركي كثيراً، إذ سعت الرياض إلى تعويض واشنطن عن انزعاجها لحضور الأسد، بدعوة زيلينسكي الذي كان الرئيس السوري قد وصفه بـ”المهرّج”، لحضور القمّة بصفة مراقب. وحتى إذا استفزّت تلك الدعوة حليفها النفطي الروسي، فإن السعودية قادرة على امتصاص الأمر، ما دامت المشاركة شكلية أو حتى فولكلورية. أمّا “البلعطة” الأميركية المتمثّلة في مساعي الكونغرس لإقرار قانون “مكافحة التطبيع” مع دمشق، فعدا كونها مهزلة باعتبار أن مصطلح “التطبيع” المرفوض مخصَّص في القاموس العربي لإسرائيل، فإنها لن تذهب بعيداً على الأرجح، نظراً إلى حيوية المصالح الأميركية مع الدول العربية، ولا سيما الخليجية.
على أيّ حال، قد تكون هذه أوّل قمّة عربية غير مملّة منذ زمن طويل. وإذا كانت قمم كثيرة سابقة قد شهدت استعراضات كان يعتقد مؤدّوها أنها مسلّية، ولا سيما في أيام قادة “الثورات” من أمثال معمر القذافي وصدام حسين وغيرهما، كما تميّزت بمناكفات ومؤامرات بين القادة العرب، فإن القمّة الحالية تجمع هذا النوع من الاستعراض والمناكفات، إلى تغيّر كبير في تموضع كثير من الدول العربية على خلفية العلاقات المتقلّبة مع الأميركيين والغرب. وهو تغيّر يرتكز على حقائق استراتيجية جديدة تعكس ليس فقط تبدّلاً في طبيعة العلاقات السياسية والعسكرية والأمنية، وإنّما كذلك الاقتصادية، ويلاقيها تعديل ملموس في موازين القوى الدولية.
في هذا السياق، كان صارخاً غياب الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، الذي كرّس الخلاف الكبير مع وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، ولا سيما أن الحجّة الإماراتية التي سيقت لهذا الغياب، وهي أنه يقوم بجولة أوروبية، بدت غير مقنعة للكثيرين. والملفّات الخلافية بين الرجلين تقع في أساس الاستدارة التي قام بها ابن سلمان الذي يسعى للتخارج من الكوارث التي طبعت مرحلة التحالف بينهما، والتي قامت على التوتّر مع المحيط، ولا سيما إيران، وإشعال الفتن والحروب، كما في اليمن، والتطبيع مع إسرائيل. وكذلك، فإن بعض القادة، مثل أمير قطر، تميم بن حمد، لم يكونوا سعداء بتصدّر ابن سلمان القمّة، ولا بمشاركة الأسد، وإن تجاوزوا حساسيتهم تجاه الأخير نتيجة أدوارهم في الحرب السورية، وحضروا. أمّا الغيابات الأخرى لزعماء مثل سلطان عُمان، هيثم بن طارق، وملك المغرب، محمد السادس، فهي طبيعية في القمم العربية التي لم يكتمل عقد الزعماء فيها يوماً.
ويرى البعض أن قمة جدة، بالمعطيات الجديدة، فرصة للنهوض الجماعي للدول العربية، لو كانت الآليات المطلوبة متوفّرة. فحتى لو كانت النوايا موجودة لتحسين العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول العربية، أو بين العديد منها، إلّا أن الوصول إليها يتطلّب أن يكون أصحاب المصلحة الحقيقية ممثَّلين تمثيلاً فعلياً في الحكم، وهذه ليست الحال، وخصوصاً في الدول المتمكّنة والقادرة على دفع عملية التنمية. فحتى “مجلس التعاون الخليجي” المتجانس نسبياً في مستويات الدخل، لم ينجح في عملية الدمج، لا فقط لناحية إقامة العملة الموحّدة، وإنّما في أمور أبسط من ذلك بكثير من مثل حرية التنقّل وسهولة المواصلات، حيث ما زال يمكن لزعيم إحدى دول المجلس، بشحطة قلم، أن يمنع مواطني دولة أو عدّة دول أخرى من أعضائه من دخول بلاده.
لا يلغي ذلك أن عدداً من الساحات العربية ستظلّ نهباً للأجانب، يوسّعون نفوذهم على حسابها، ويصفّون حساباتهم فيها. فها هي حرب السودان ومعارك ليبيا المستمرّة والأزمة الاقتصادية في مصر، والمشكلات المتنوّعة للبنان وغيرها، تشهد على القدرة المحدودة للعرب على الفعل. وحتى إذا كانت لحظة سوريا قد حانت في هذه القمة، فإن ما تفعله الأنظمة هو قطاف ما حقّقته الشعوب التي تمثّل المقاومة نبضها، بمساعدة آخرين من غير العرب، كإيران وروسيا.
وعلى رغم الكلمة التي افتتح بها ابن سلمان القمّة، متعهّداً بعدم السماح “بأن تتحوّل منطقتنا إلى ميادين للصراعات، ويكفينا مع طيّ صفحة الماضي تذكّر سنوات مؤلمة من الصراعات عاشتها المنطقة”، فإن العبرة تظلّ في التنفيذ، وخاصة أن كلّ تاريخ القمم العربية تميّز بكلام لا يجد طريقه إلى التطبيق.