في الصراع الهوياتي الذي يعيشه لبنان على امتداد سنوات سلفت، وربما أخرى ستأتي، تتشظى الصيغة القديمة التي عرفها اللبنانيون منذ ما قبل الإستقلال وفي حقبة تلته. مجموعة نزاعات سياسية، ثقافية، إقتصادية، وفي السياسة الخارجية يعيشها اللبنانيون مع بعضهم البعض. تتعاظم هذه النزاعات في ظل استفحال الأزمات المالية والإقتصادية، لأن هناك ارتباطاً جوهرياً بين الإندماج الإجتماعي والنمو الإقتصادي والمالي، أما في حالات التدهور والإنهيار، يرتفع منسوب الإنقسام وتؤول المجموعات البشرية إلى شرانقها، تتقوقع داخل الطوائف، وترتكس إلى موروثات التفوق على الآخر. وهذا بالضبط ما يعيشه لبنان اليوم، في ضوء الإنقسامات القائمة، والتي أصبحت أبعد من مجرد اختلاف حول انتخاب رئيس للجمهورية، إنما الصراع على وجهة البلد وهويته، فالبعض يريد لوجهته أن تكون شرقية، والبعض الآخر يتمسك بالبعد الغربي.
بين الاستقواء والطلاق
كل هذه الإنقسامات القائمة، يُعبّر عنها بشكل يومي، إما من خلال طرف يدّعي الإنتصار العسكري والسياسي والتفوق على صعيد المنطقة، وبالتالي يريد أن يفرض شروطه السياسية والرئاسية ولا يريد رئيساً يطعن قوته ويبدد الأثمان الكبرى التي دفعها. وإما من خلال طرف آخر يعتبر نفسه غريباً عن هذا اللبنان ولذلك يفضّل الذهاب إلى الإنطواء والإنزواء، على قاعدة لكم لبنانكم ولنا لبناننا، ولا بد من الإفتراق أو الطلاق أو الإتجاه نحو الفيدرالية والتقسيم. وكل هذه النزاعات تتعزز وتتنامى طالما أن القوى السياسية والطائفية والمدنية، عاجزة عن تقديم مشروع رؤية جديد من شأنه الحفاظ على وحدة البلاد وإعادة إنتاج دور له كما كان في السابق.
إعادة الفعالية للميثاق
على الرغم من كل الإنقسامات القائمة، لا تزال هناك محاولات من جهات متعددة بالسعي للوصول إلى اتفاق على تطوير الصيغة، بشكل يحفظ وحدتها وكيانيتها، مقابل تعزيز أدوار القوى الإجتماعية فيها. جهات كثيرة تعبّر عن مثل هذه المشاريع، كان آخرها جامعة الكسليك في المشروع الذي تعمل على إعداده حول اللامركزية الإدارية، إلى جانب مشاريع تطويرية تقوم بها في مكتباتها لحفظ المخطوطات والصور والأفلام القديمة بشكل يرتبط مع الحفاظ على تاريخ لبنان. هذا المشروع المتكامل يحتاج إلى أجنحة أخرى في البلاد تتبناه في سبيل إنجازه وإنضاجه وتطبيقه. وهذا بحدّ ذاته سيكون بحاجة إلى إعادة الفعالية لمفهوم الميثاق الوطني، والذي قام على جناحين أساسيين مسلم ومسيحي.
في هذا السياق، برزت زيارة وفد من الشخصيات السنّية إلى جامعة الكسليك، حيث التقوا الرهبان والمسؤولين عن إعداد مشروع اللامركزية الإدارية. كل المعلومات تفيد بأن اللقاء كان إيجابياً جداً، لا سيما في ظل الإتفاق على “الوحدة اللبنانية”، وعلى إتفاق الطائف، وأن يكون المشروع من ضمن ما أقره الطائف لا تخلياً عنه. في الخلاصة والنتيجة أن هناك رؤية تركز على أن اللامركزية وإقرارها هو الخيار الوحيد حالياً الذي من شأنه أن يحمي وحدة البلاد ومنعها من التشظي والسقوط في مشاريع التقسيم والإنفصال. وهو في الأساس مشروع متأخر منذ العام 1990 وبنتيجة التطبيق المحرف والمحور لإتفاق الطائف.
فهم علاقات الطوائف
في أحد توصيفات المؤرخ كمال الصليبي لفكرة ميشال شيحا عن لبنان، مع الإشارة إلى أن شيحا هو أحد آباء الميثاق، يقول:” كان من رأيه أنّ الحفاظ على الكيان اللبناني الجديد يستحيل ما لم تُفهم العلاقات التقليديّة بين الطوائف اللبنانية المختلفة وتُعطَ حقّها من الاعتبار”. يمكن تفسير هذا الكلام، في أن الميثاق الذي تبناه بشارة الخوري ورياض الصلح، حول الشراكة الإسلامية والمسيحية حول نهائية كيان لبنان الكبير، استمر لسنوات، تخللها صراعات كثيرة بسبب استشعار طوائف معينة بأن حقّها ليس في الإعتبار، أو انها من الدرجة الثانية في المواطنية. لكن بقيت الفكرة الأساس قائمة على الجناحين.
مارس الرئيس كميل شمعون صلاحياته الرئاسية بكل ما كان فيها من نفوذ وسلطة، وهو ما دفع الآخرين إلى الإستشعار بالخطر أو بتقلص المكاسب والتأثيرات. لكن عملياً، كانت الفكرة التي قام عليها الميثاق وهي الإلتقاء مثلاً بين السنّة والموارنة وضمناً الأرثوذكس، هي التي أنتجت الإزدهار اللبناني، أو ما يصطلح حالياً على تسميته بالعصر الذهبي، وبنتيجة تحولات إقليمية ودولية أبرزها النكبة الفلسطينية، وإجراءات التأميم في العالم العربي تحول لبنان الى سويسرا الشرق. لكن التراكمات السياسية والطائفية والإقليمية استمرت ولا مجال لبحثها هنا، فأدت إلى انفجار الحرب الأهلية، إلا أنه ما بعدها أعيد انتاج الصيغة اللبنانية على أساس الميثاق أيضاً، وعلى قاعدة المناصفة.
المسيحيون بين السنّة والشيعة
حصل حينها التقاء بين السنّة والمسيحيين بقيادة البطريرك الماروني نصر الله صفير، الذي أيد الطائف ومثّل تعويضاً عن غياب القيادات المسيحية عن لبنان إما نفياً أو اعتقالاً. هذا الإلتقاء الموضوعي مع رفيق الحريري أعاد إنتاج زمناً تعايش فيه لبنان مع البحبوحة وإعادة الإعمار والخروج من آثار الحرب، فتقدم الإقتصاد على السياسة، فالأخيرة كانت مغيبة بفعل الوصاية السورية وبفعل إيكال الملفات السياسية الداخلية والخارجية لها الى جانب السياسة العسكرية أو الدفاعية أي المقاومة. أما مع اغتيال رفيق الحريري، فبدأ مشروع ضرب هذه الوجهة، والتأسيس للخروج من “التحالف” أو الإلتقاء التاريخي بين السنّة والمسيحيين وهو إلتقاء كان أساسه على الدولة ومؤسساتها والإلتزام بها. أدت التطورات إلى ولادة تحالف من نوع آخر، انقسمت فيه البلاد عمودياً، جزء من المسيحيين تحالف مع السنّة، وجزء آخر تحالف مع الشيعة.
استمر الإنقسام والصراع على وقع متغيرات إقليمية ودولية، ما أدى إلى تعزيز دور الشيعية السياسية. حتّى السنّة اجبروا على الإلتقاء معها أو التطبيع مع الأمر الواقع المستمد من العراق وسوريا. عبّرت تسوية العام 2016 عن إعادة تجديد الميثاق شكلياً ونظرياً ولكن بدون المضمون، فبنيت التسوية بين الشيعة والسنة والموارنة.
صراع على وجهة البلد
استمر الصراع على وجهة البلد السياسية والإقتصادية، ما أدى إلى انهيارات متلاحقة، وثورة شعبية عارمة دفعت زعيم السنّة إلى الخروج من المشهد، وصولاً إلى حالة انكفائهم وتشظيهم كما هو حاصل اليوم، فيما استمرت العلاقة القوية بين الشيعة والموارنة طوال عهد الرئيس ميشال عون، لتعود وتنكسر نسبياً في ظل الصراع المفتوح على الإنتخابات الرئاسية وعلى هوية الرئيس.
صراع يدفع المسيحيين إلى رفض الإستسلام لحزب الله وخياراته، ورفض انتخاب الرئيس الذي يريده الحزب، ففي مواجهة هذا الواقع، يلجأ كثر من المسيحيين الذين استشعروا مخاطر انتهاء دور البلد، إلى الإكثار من الدعوات للتقسيم أو الفيدرالية أو اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة. خصوصاً بعد خسارتهم لكل الإمتيازات التي أسسوا لها، بنتيجة الإنهيار الذي قضى على قطاعات كثيرة، مصرفية، تعليمية، صحية، وصولاً إلى تفجير مرفأ بيروت. وقد أضحى طرح اللامركزية المالية والإدارية الموسعة، والصندوق المالي الإئتماني، مطلباً أساسياً لدى التيار الوطني الحرّ في مفاوضاته مع حزب الله.
الكنيسة وتجديد الدور
في مواجهة كل هذه الدعوات للإنقسام أو التقسيم، لا تزال الكنيسة المارونية ومراكز قرار مسيحية أخرى، ترفض الذهاب إلى طرح الفيدرالية، وهو ما تقوم به جامعة الكسليك، وهو ما يؤكده أيضاً البطريرك الماروني بشارة الراعي، وهو ما يشدد عليه الفاتيكان في ضرورة اندماج المسيحيين في الشرق بمجتمعاتهم. هنا يبرز دور جامعة الكسليك، وزيارة الوفد السنّي برئاسة فؤاد السنيورة حول إعادة الإجتماع على صوغ مشروع واضح وموحد، يفرض على طرف تقديم تنازلات للطرف الآخر مقابل الحفاظ على وحدة الكيان، وتجديد دوره، خصوصاً مع وجود قناعة بأن انزواء المسيحيين في مناطق معينة هو نهاية دورهم. أما تقنياً فتشير المعلومات إلى أن اللامركزية المقترحة تستند على اتحادات البلديات، وهذا ما يأتي في صلب اتفاق الطائف، فيما الأمر الذي يحتاج إلى نقاش معمق يرتبط بكيفية توفير التمويل وإدارته.