تتجلّى آثار الأزمات المتلاحقة التي يعيشها لبنان، بدءا من الأزمة الاقتصادية في عام 2019 وصولاً إلى الحرب الحالية بين حزب لله و«إسرائيل»، في أبعادها النفسية العميقة التي ترسّخت في نفوس اللبنانيين. يعيش المواطنون تحت وطأة القلق والخوف المتعاظم، مما أدّى إلى تزايد الإقبال على أدوية مهدئات الأعصاب، لتصبح خيارا شائعا في مواجهة الضغوط النفسية التي يعانون منها. هذه الظاهرة ليست مجرد استجابة للواقع الصعب، بل تعكس أيضا حاجة ملحّة للعلاج والدعم النفسي في ظل الظروف القاسية التي تعصف بالحياة اليومية.
الصحة النفسية «بخطر»
خلال جولة ميدانية قامت بها «اللواء» على عدد من الصيدليات في مناطق مار إلياس، الحمرا، كورنيش المزرعة، والشياح، الجميزة وبرج حمود، وصولا الى الزلقا، لوحظ أن غالبية المواطنين الذين يدخلون إلى المؤسسات الدوائية يطلبون أدوية الأعصاب والمهدئات. وقد أشار صيادلة الى أن حوالي 95% من اللبنانيين يعتمدون على مسكنات ومهدئات أعصاب، نتيجة لتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين «إسرائيل» وحزب لله.
ولم يقتصر هذا الواقع المتدهور على المناطق المتضررة مباشرة من الاشتباكات، بل امتد ليشمل جميع المناطق اللبنانية، حيث أسفرت هذه المواجهات عن تضرر مصالح العديد من المواطنين. تظهر هذه الظواهر النفسية والاجتماعية الحاجة الملحّة الى الدعم النفسي، مما يستدعي تحرّكا سريعا من الجهات المعنية لتوفير الدعم للأشخاص المتأثرين. لا يتوقف الأمر على الأدوية، بل يجب أن تتضمن الحلول برامج توعوية وعلاجية تعزز من الصحة النفسية للمجتمع.
أدوية الأعصاب تستقطب الكبار والصغار
من جهته، يؤكد الصيدلي علي خليل لـ «اللواء» أن هناك «تهافتا مخيفا على أدوية مهدئات الأعصاب في ظل هذه الأوضاع الصعبة، سواء كانت اقتصادية أو أمنية. فقد زاد الطلب مؤخرا بشكل كبير، لكن هذا الأمر ليس جديدا. وانطلاقا من الأزمات، لاحظنا أن بعض المرضى لا يملكون القدرة على شراء احتياجاتهم الدوائية أو حتى الحصول على وصفة طبية شرعية من الطبيب المختص، وذلك لأن هذا النوع من العقاقير لا يمكن صرفه دون وصفة رسمية من طبيب أعصاب أو نفساني». ويضيف ان هناك «إقبالا قويا، ونحاول بدورنا كصيادلة أن نكون إلى جانب المريض، لكن في الوقت نفسه لا يجب أن نتخطى القوانين في نقابتي الأطباء والصيادلة والأمراض النفسية، حتى لا نزيد الطين بلّة، ويصبح لدى المريض إدمان على هذه الأدوية. لذلك، نحرص قدر الإمكان على إعطاء المريض الدواء الموصوف في حال امتلاكه وصفة طبية»، مشيرا إلى «غياب التعاون من قبل نقابة الأطباء، خصوصا في المجال النفسي، حيث رصدنا عدم وجود تسهيلات في شؤون المرضى. فعلى سبيل المثال، يأتينا مرضى من مختلف الفئات العمرية، ولم نرَ تعاونا مع هؤلاء أو تيسيرا في شؤونهم».
ويكشف لـ «اللواء» عن أن «التهافت تضاعف بمعدل يفوق الـ 100%؛ فإذا كان الأطباء يصفون في السابق حوالي 10 علب يوميا، فقد ارتفع هذا العدد ليصل إلى 30 وحتى 40 علبة دواء يوميا، ومن هنا شهدنا أن النسبة قفزت إلى 200 و300%. والخطر في هذه المسألة أنها قد بدأت تطال جميع المراحل العمرية، وبالتالي يتزايد الضحايا فيما يتعلق بالجانب النفسي».
ويناشد عبر «اللواء» «الجهات المعنية المساعدة لتنظيم هذا المجال بشكل أفضل، لأن الصيدلي بمفرده لا يمكنه هيكلة هذا القطاع، بحيث نعاني من ضغوطات ضخمة حتى باتت الشتائم المؤذية تصل إلينا من المرضى».
ويختم خليل بالقول: «قبل إعطاء أي دواء، نقوم بقياس ضغط الدم للمريض، ويتبيّن أن معظم المرضى الذين يأتون إلينا لديهم ارتفاع في ضغط الدم، وذلك مرتبط بتفاقم المشكلات العائلية، حيث تقاسي الغالبية من وضع اجتماعي واقتصادي ونفسي. لذلك، أتمنى أن يصل صوتنا إلى المسؤولين، وأن نلقى تعاونا جدّيا وميسّرا من جهة تقديم الدعم اللازم لجميع المراحل العمرية، وليس فقط البالغين، لأن هناك تهافتا كثيفا من الصغار على شراء العقاقير النفسية».
تداعيات الأزمة النفسية
من جانبها، تقول الاختصاصية الاجتماعية والنفسانية الدكتورة غنوة يونس لجريدة «اللواء» إن «من أبرز الظواهر التي ظهرت في ظل الحرب والنزوح هي حالة التهافت على شراء المهدئات وأدوية الأعصاب. لا شك أن الخوف المستمر يدفع الكثير من الناس الى البحث عن وسيلة سريعة لتخفيف الألم النفسي والشعور بعدم الأمان، لكن قد يشكّل اللجوء إلى المهدئات تحدّيا على المدى البعيد، بخاصة إذا لم يتم استخدامها بشكل صحيح وتحت إشراف طبي».
وتلفت الى ان «المهدئات، مثل البنزوديازيبينات وغيرها من أدوية الأعصاب، تعمل على تهدئة الجهاز العصبي وتخفيف الشعور بالتوتر والقلق، مما يجعلها حلاً مغريا للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات القلق الشديد أو نوبات الهلع. في ظل الأوضاع المأسوية الراهنة، تجد شريحة واسعة أن هذه البلاسم توفر نوعا من الراحة المؤقتة».
وتحذّر من «أن الاعتماد على هذه الأدوية قد يكون له تداعيات سلبية خطرة إذا لم يتم تناولها بالشكل الصحيح. فالمهدئات ليست علاجا جذريا للمشكلات النفسية، بل هي أداة لتقليص الأعراض لفترة زمنية قصيرة. ومع الوقت، قد يصبح الشخص متكلا عليها جسديا ونفسيا، مما يؤدي إلى إدمان يصعب التخلص منه».
الأسباب
وتوضح ان «تزايد إقبال المواطنين على شراء المهدئات يرجع إلى عدة عوامل نفسية واجتماعية:
1. الخوف المستمر وانعدام الأمان: يشعر الناس بأن حياتهم مهدّدة في كل لحظة، سواء بسبب القصف أو النزوح أو عدم اليقين بشأن المستقبل. يدفع هذا الشعور بالهلع الدائم البعض الى إيجاد «مخرج سريع» للهرب من الضغط النفسي، وتبدو المهدئات كحلّ فوري وفعّال.
2. الانقطاع عن الحياة الطبيعية: يجعل النزوح وخسارة الروتين اليومي الناس يشعرون بالعجز عن إدارة حياتهم. في هذه الظروف، يلجأ الكثير من الأفراد إلى المسكنات لمحاولة استعادة بعض من السيطرة على مشاعرهم والتخلص من التوتر الشديد الذي يعانون منه.
3. الوصول السهل إلى الأدوية: في بعض الحالات، قد تكون العقاقير المهدئة متوافرة في الصيدليات بشكل غير مراقب كليا، مما يسهل على الناس ابتياعها دون استشارة طبيب، مما يزيد من خطر الإفراط في استخدامها وتطوير الاعتماد عليها».
الأضرار المحتملة!
وتؤكد انه «على الرغم من الفوائد القصيرة المدى لهذه الأدوية، لكن تؤدي المبالغة في بلعها إلى:
1. الإدمان: كما سبق ذكره، يمكن أن تتسبب المهدئات في اعتماد جسدي ونفسي، حيث يصبح الشخص غير قادر على التعامل مع الحياة اليومية دون شربها.
2. زيادة الاكتئاب: في بعض الحالات، قد تفاقم المهدئات الاكتئاب بدلاً من تحسينه، بخاصة إذا أخذت لفترات طويلة دون علاج نفسي موازٍ.
3. تدهور القدرات الذهنية: التناول المستمر للمهدئات يمكن أن يؤثر في الذاكرة والتركيز، مما يجعل الشخص أكثر بطئا في التفكير واتخاذ القرارات.
4. انخفاض الفعالية بمرور الوقت: قد تتطلب المستحضرات الطبية مع مرور الوقت، جرعات أعلى لتحقيق نفس التأثير المهدئ، مما يضاعف من خطر الجرعة الزائدة أو التسمم الدوائي».
البدائل الصحية الآمنة
وتشدّد على ان «هناك حاجة ماسّة لتوجيه الناس نحو العلاجات النفسية المأمونة التي يمكن أن تساعدهم على التكيّف مع التوتر والخوف بشكل أكثر استدامة. بعض هذه البدائل تشمل:
1. العلاج النفسي أو الدعم النفسي: تعدّ جلسات الدعم النفسي مع أخصائيين حلّا ناجعا لمؤازرة الأفراد ومداواة المشاعر العميقة والخوف المرتبط بالحرب. يعتبر العلاج المعرفي السلوكي واحدا من أكثر الأساليب فعالية في التأقلم مع الضغوط النفسية.
2. تقنيات الاسترخاء: يمكن لبعض تقنيات الاسترخاء البسيطة، كالتنفس العميق أو الاسترخاء التدريجي للعضلات، ان تسهم في تهدئة الجهاز العصبي بطرق طبيعية وآمنة.
3. الدعم الاجتماعي: يلعب اللجوء إلى الدعم المجتمعي والعائلي دورا كبيرا في تخفيض الضغوط النفسية. يمكن أن يخفف الشعور بأننا لسنا وحدنا في مواجهة هذه الصعوبات من حدة القلق، ويخلق مساحة للتعبير عن المشاعر والتواصل مع الآخرين.
4. إدارة الوقت والأنشطة اليومية: تعتبر العودة إلى نوع من الروتين اليومي، حتى في ظل ظروف النزوح، امرا ضروريا يساعد في تنظيم الحياة والحد من الشعور بالفوضى. ان تحديد أوقات للنوم والطعام والتواصل مع الآخرين يمكن أن يوفر استقرارا نفسيا هاما، ويساهم في تخفيف القلق».
وتستكمل «في ظل الظروف العصيبة التي يرزح تحت وطأتها اللبنانيون اليوم، يلجأ الكثيرون إلى المهدئات كحل سريع للتخفيف من الضغوط النفسية. ومع ذلك، ينبغي توخي الحذر الشديد عند استخدامها، لأن هذه المسكنات قد تصبح سيفا ذا حدّين إذا لم يتم تناولها بالشكل الصحيح وتحت إشراف طبي متخصص. تكمن الحلول المستدامة في التوجه إلى العلاج النفسي، الدعم الاجتماعي، وتقنيات إدارة التوتر، التي تعالج الأسباب الجذرية للقلق والتوتر بدلاً من الاعتماد على الخيارات المؤقتة التي قد تزيد من تعقيد الوضع على المدى البعيد».
وتكشف لـ «اللواء» ان «الحرب التي يعيشها اللبنانيون اليوم خلّفت آثارا نفسية عميقة، تمتد إلى كل فرد في المجتمع. في البداية، انخفض الطلب على الجلسات العلاجية النفسية، إذ انشغل الناس بمحاولة النجاة والبحث عن ملاذ آمن. ولكن مع مرور الوقت، وبعد أن استقر النازحون نسبيا في منازل جديدة أو مأوى مؤقت، بدأت تظهر الأعراض النفسية بشكل أوضح، مما أدى إلى عودة الطلب على جلسات الدعم النفسي بشكل كبير».
وتختم يونس «اليوم، يعيش اللبنانيون في حالة من الاستنزاف النفسي، حيث تنامت مشاعر الخوف والقلق والتوتر وعدم الأمان. ولا يوجد أحد «ناجٍ» تماما من تأثيرات الحرب، ولكن يمكننا كأفراد ومجتمعات أن نتخذ خطوات واقعية تساعدنا في التخفيف من حدة هذه الآثار. بناء الروتين، تقليل التعرض للأخبار، التواصل مع الآخرين، والاهتمام بصحة الأطفال النفسية هي أمثلة بسيطة ولكن فعالة لتحسين حياتنا اليومية في هذه الأوقات العصيبة. وبالتأكيد، الاستعانة بالمعالجين النفسيين أمر أساسي لمساعدة الأفراد على تجاوز هذه المرحلة بشكل أفضل».