نضال العضايلة
بعد نجاح الثورة الإيرانية وقيام جمهورية إسلامية على مبدأ “الولي الفقيه”؛ رأى بعض قادة الثورة وعلى رأسهم الولي الفقيه- الخميني- بأن النموذج الإيراني ممكن أن يطبق بنجاح في كل المنطقة، وأن مسئولية نقل هذه الثورة إلى بقية دول المنطقة، تقع على عاتق إيران وهو ما عُرف بمبدأ “تصدير الثورة”.
كانت نتيجة التصريح العلني عن العمل بمبدأ تصدير الثورة وما ترافق معه من أعمال شغب للأقليات الشيعية في دول المنطقة؛ دخول إيران والعراق في حرب ضروس استمرت ثمانيَ سنوات، أنهكت كلا البلدين، ذاقت بعدها إيران مرارة عزلة خانقة، بعدها أدرك القادة الإيرانيون أن مبدأ تصدير الثورة بالشكل العلني يعود بالمشاكل على إيران، لذلك تخلت إيران عن مبدأ تصدير الثورة بالشكل العلني لتتمكن من فتح صفحة جديدة في علاقاتها مع دول الجوار، إلا أنها استبدلت به القوة الناعمة، فمن الصعب أن تتخلى إيران عن رغبتها في أن تكون قوة إقليمية ولاعبا أساسيا في المنطقة، ولا شيء أفضل من الغطاء الديني يعطي إيران فرصة لتحقيق رغبتها، عن طريق قيادة جماعات بشرية خارج حدودها، تهدد الاستقرار، وتكون ورقة ضغط ناجحة بيد إيران تستخدمها متى تشاء، لذلك حافظت إيران على علاقتها بالفئات الشيعية والطوائف القريبة من الشيعة في مختلف دول المنطقة، وواحدة منهم الزيدية في اليمن، وبالفعل استطاعت إيران من خلالهم تأسيس نفوذ لها في اليمن.
ازداد تمدد النفوذ الإيراني في اليمن بعد ثورة فبراير نتيجة الفوضى السياسية وغياب دور الدولة حيث تمكن الحوثيون في ظل تلك الأوضاع من عقد تحالفات مع الرئيس المخلوع صالح ومن يدينون له بالولاء من رجال المؤسسات العسكرية ورجال بعض القبائل، وخاضوا حروبا في عده مناطق من اليمن حتى وصلوا إلى العاصمة صنعاء وأسقطوها في 21 أيلول 2014.
وبعد إسقاطهم للعاصمة وتسلمهم زمام الأمور، شكلوا ما يُسمى باللجان الشعبية في المحافظات التي استولوا عليها بحجة المحافظة على الأمن والنظام، وعينوا ممثلين لهم في كل مؤسسات الدولة من الوزارات إلى أقسام الشرطة والبنوك والمؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية، ومكاتب المحافظات ومراكز المديريات والمحاكم والجامعات، استبدلوا بمحافظي المحافظات التي استولوا عليها، استبدلوا بهم آخرين يوالوهم، سيطروا على وسائل الإعلام الحكومية المسموعة والمرئية والمقروءة، ووفقا لبعض التقارير سيطر الحوثيون وقتها على 70 بالمئة من قدرات الجيش اليمني.
تمدد الحوثيون في المدن والمحافظات اليمنية لفرض نفوذهم وسيطرتهم عليها، وأصبحوا يسيطرون على العاصمة صنعاء بمختلف مؤسساتها ووزاراتها، ومحافظة صعدة معقلهم الرئيسي، وسيطروا على مدينة أرحب الجبلية المطلة على مطار صنعاء الدولي، ومحافظة الجوف الحدودية مع السعودية والواعدة باكتشافات في مجال الغاز، ومحافظة حجة ويوجد بها ميناء ميدي المطل على البحر الأحمر، ومحافظة الحديدة حيث يوجد ثاني أكبر الموانئ اليمنية وتشترك مع السعودية في منفذ حرض البري، ومحافظة ذمار القريبة من العاصمة، بالإضافة إلى محافظتي عمران وإب وأجزاء من محافظة البيضاء ومازالوا يقاتلون هناك للسيطرة على كامل المحافظة التي ستمكنهم من السيطرة على محافظة مأرب الغنية بالنفط والغاز الطبيعي.
ووصل النفوذ الإيراني في اليمن لدرجة أن صنعاء كانت تدار من طهران، ففي إحدى المرات أراد الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي إقناع الحوثيين بالموافقة على تنفيذ أحد قرارات مؤتمر الحوار الوطني، فما كان منه إلا أن أرسل وزير الخارجية إلى مسقط كي تتوسط لدى طهران بالضغط على الحوثيين للموافقة.
كغيرها من الدول ذات الأطماع التوسعية والتاريخ الحافل بالتدخلات الخارجية في شؤون الشعوب الأخرى؛ تسعى إيران جاهدةً إلى فرض نفوذها وهيمنتها على المحيط الجغرافي المجاور لها، وكأنها بذلك تحاول استعادة عرش كسرى وسلطان ما قبل القادسية.
فما تمارسه إيران ليس طموحات سياسية واقتصادية يحق لكل دولة أن تقوم بها بالوسائل المشروعة، بل هي أطماع واسعة تتعدى حقوق الآخرين.. فقد اتخذت السياسة الخمينية الإيرانية التوسعية مساراً عدائياً تصادمياً عبر خطين متوازيين : الخط الأول، ممارسة العنف والتصعيد ضد العدو الحقيقي الدائم، وهم المسلمون السُّنة والعرب، والخط الثاني، إظهار العدو الوهمي (إسرائيل وأمريكا) بمظهر العدو الحقيقي الدائم؛ كغطاء لإخفاء حربها الحقيقية على عدوها الرئيسي، ووسيلة لممارسة الخداع ضده.
وبالفعل، نجح الخمينيون في خداع كثير من العرب والمسلمين الذين اغتروا بظاهر القول وقشور السياسة الإيرانية، دون النظر إلى لُبها وجذورها وأصولها الفكرية ومساراتها التاريخية التي على أساسها تُبنى القناعات، وتُفسر السياسات، وتُكشف الحقائق.
وتُعدّ الخدعة الخمينية ثاني أكبر خدعة وقع فيها كثير من العرب والمسلمين في العصر الحاضر بعد الخدعة الصهيونية بخيالات «السلام» وحكايات «المفاوضات» لحل قضية فلسطين المحتلة.
لقد اتّبعت السياسة الإيرانية الخمينية سَنَن السياسات الإسرائيلية والأمريكية حذو القذة بالقذة في التعامل مع الدول الأخرى والتدخل في شؤونها المحلية، حيث قامت تلك السياسة على بث الشقاق، وتفعيل الصراع، وإثارة الفوضى والأزمات، وإيقاظ الفتن.
وثمة أهداف ودوافع متفاوتة وراء الأطماع والتدخلات الإيرانية في شؤون دول المنطقة، فهناك أهداف أساسية ثابتة بعيدة المدى، وهناك أهداف مرحلية مرتبطة بالتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
وعلى رأس الأهداف الأساسية استعادة الهيمنة الفارسية على المنطقة، لكن بصورة دينية، طائفية، عبر نشر التشيع، ودعم الجماعات الشيعية في المنطقة، وإثارة النعرات المذهبية والاضطرابات السياسية والفوضى الأمنية.
كغيرها من الدول ذات الأطماع التوسعية والتاريخ الحافل بالتدخلات الخارجية في شؤون الشعوب الأخرى؛ تسعى إيران جاهدةً إلى فرض نفوذها وهيمنتها على المحيط الجغرافي المجاور لها، وكأنها بذلك تحاول استعادة عرش كسرى وسلطان ما قبل القادسية.
إلى جانب الأهداف الدينية المذكورة آنفاً، هناك أهداف أخرى تعددت التحليلات والرؤى حول طبيعتها وأبعادها. يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء – الدكتور عبدالله الفقيه – لصحيفة (الشرق الأوسط): «إيران تسعى من خلال أنشطتها التوسعية داخل اليمن إلى تحقيق عدة أهداف؛ فهي أولاً تريد زيادة قوتها الإقليمية، واستباق أي خسائر يمكن أن تلحق بها نتيجة ثورات (الربيع العربي).
وإذا كانت تدافع باستماتة عن النظام السوري ودعمه بكل الطرق الممكنة حتى لا تخسر حليفاً استراتيجياً؛ فإن ما تقوم به في اليمن يمثل انعكاساً لليقين المتزايد بين السياسيين الإيرانيين بأن سقوط نظام الأسد هو مسألة وقت، وأن على إيران أن تبحث عن مناطق نفوذ جديدة في العالم العربي تعوض بها الخسائر الكبيرة المحتملة التي ستلحق بها من جراء سقوط النظام السوري، سواءً في سورية ذاتها أو بين الجماعات المرتبطة بالنظام السوري في لبنان والعديد من الدول العربية الأخرى».
إن تحقيق نفوذ إيراني في اليمن لا يمكن أن يتم في ظل وحدة مجتمعية ودولة مهيمنة ومستقرة؛ لذلك فهي تسعى في سبيل تقوية حلفائها إلى تفجير الأوضاع العسكرية في اليمن، وإيجاد حالة من الفوضى العارمة التي يمكن معها إعادة صياغة موازين القوى.
ومن هنا، نجد أن الحوثيين حاولوا – ولا يزالون – بكل الوسائل، جرّ القوى الإسلامية إلى الدخول في صراع عسكري مسلح، عوضاً عن الحروب التي كانت تتم مع نظام صالح، وهذا ما دفعهم لمهاجمة السلفيين في صعدة، ومهاجمة الإصلاحيين (الإخوان المسلمين في اليمن) عقب الثورة الشعبية في أكثر من محافظة يمنية، كمحافظات الجوف وعمران وحَجّة، إضافة إلى محافظة صعدة ذاتها، وقد حذر مراقبون سياسيون وخبراء عسكريون من سيناريو من هذا القبيل يجري الإعداد له إيرانياً وحوثياً.
ومن أجل دعم تحرُّك كهذا، قامت إيران – عبر مخطط، بدأ تنفيذه منذ اندلاع الاحتجاجات في اليمن – بتمويل عشرين وسيلة إعلامية فضائية وورقية وإلكترونية، وقد بدأت فعلاً بالسعي لاستخراج تصاريح سبع صحف مختلفة، اثنتان منها بدأتا بالصدور فعلاً، كما جرى تمويل إطلاق عشرة مواقع إلكترونية لجهات وأشخاص ومجموعات تعمل في إطار المخطط ذاته، وهناك ثلاث قنوات فضائية موجهة للجمهور اليمني يجري تمويلها، إحداها تشرف عليها قناة (المنار) اللبنانية، وأخرى قناة (العالم) الإيرانية، والثالثة تشرف عليها قناة عراقية لم يتم الكشف عنها، مع دورات تدريبية تقدم في بيروت للكوادر الإعلامية عن طريق منظمات لبنانية تتبع جهات محسوبة على إيران، وتركيز هذه الدورات على قوى اليسار والإعلاميين الذين عملوا مع المؤتمر الشعبي العام ونظام الرئيس السابق علي صالح.
ومثَّل حزبا (الحق) و(اتحاد القوى الشعبية) جناحي الأجندة السياسية للمخطط الطائفي خلال حقبة ما بعد الوحدة اليمنية عام 1990م، ورغم وجود خلافات فكرية ومنهجية بين قيادة الحزبين، غير أنهما ظلا يمثلان غطاءً سياسياً وحقوقياً مسانداً لحركة الحوثي مع احتفاظهما بموقعيهما في تكتل (اللقاء المشترك).
وحيث وقفت طبيعة شروط الانتماء المغلقة التي ميزت الحزبين خلال الفترة السابقة عائقاً أمام تحول الحزبين إلى كيانات شعبية مفتوحة لكافة أبناء المحافظات اليمنية بمختلف مذاهبها؛ فإن الاستراتيجية الجديدة التي تسعى إليها إيران هي إنشاء أحزاب تضم قوى ناصرية واشتراكية وبعثية وصوفية، وشخصيات قد تخرج من (المؤتمر الشعبي العام) ومن تكتل (اللقاء المشترك)؛ لتمثل كيانات سياسية واسعة الانتشار والحضور في مواجهة المشروع الإسلامي (السُّني)؛ باعتباره العدو المشترك للجميع. وقد بدأت إجراءات التنسيق لإشهار بعض هذه الأحزاب من مدن محسوبة على المناطق السنية وربما الجنوبية.
من هذه الأحزاب (حزب الأمة) الذي تم الإعلان عنه في 5 يناير 2012م، وهناك شبه إجماع في أوساط المراقبين والمحللين السياسيين على أن الحزب واجهة سياسية جديدة لحركة الحوثي. وكذلك (الحزب الديمقراطي اليمني) الذي تم الإعلان عنه يوم 24 مايو 2010م، ويظهر من أدبياته ووثائقه الرسمية الصادرة عنه، ومن مواقفه السياسية؛ أنه جزء من التحالف الإيراني في اليمن.
يظهر مما سبق أن السياسة الإيرانية لا تختلف كثيراً عن سياسات الدول الاستعمارية، حيث تتدثر بالشعارات البرّاقة لتعيث في الأرض الفساد، ولسان حالها يقول: «إنما نحن مصلحون»، بينما الواقع يقول: «إنهم هم المفسدون».
دمر الاتحاد السوفييتي جزءاً واسعاً من العالم تحت شعار مقاومة «الرجعية والإمبريالية»، والغرب جاء بشعار «الحرية، والديمقراطية، وحرية الإنسان» كغطاء لنشر الدمار والخراب في الأرض، وها هي إيران تسير على نفس الدرب رافعةً بإحدى يديها شعارات «الممانعة» و«الموت لإسرائيل وأمريكا»، بينما اليد الأخرى تبطش بالمسلمين سفكاً وتنكيلاً، وما أحداث سورية واليمن عن واقع هذا الحال ببعيدة.
إنّ تاريخ العلاقات اليمنية الإيرانية، أصبح مخضباً بالدماء، منذ اللحظة التي اختارت فيها إيران استخدام العنف المبطن والواضح أيديولوجياً وعسكرياً من خلال الحوثيين، ليمزق اليمنيون أنفسهم من أجل بزوغ كيانٍ جديدٍ يمثلها، وحتماً سيكشف التاريخ حجم وتفاصيل دمار اليمن السعيد على يد طموحات إيران غير المشروعة، ولو أنّه لم يكن بهذه السعادة قبل الحرب، إلا أنّه لم يكن يوماً، بحاجة إلى كل هذا الدمار.