إيلي الفرزلي – الأخبار
فوضى عارمة تشهدها عملية إعداد التصاريح الضريبية للعام ٢٠٢٠. اعتماد الاقتصاد، على الأقل، على سعرين للدولار: سعر رسمي وآخر يحدده السوق، حوّل ميزانيات الشركات إلى أرقام لا تعبّر عن الواقع. قرارات وزارة المالية، وآخرها المتعلّق بتحديد الضريبة على القيمة المضافة على أساس السعر بالليرة، لا تكفي لتصويب الحسابات. المطلوب قانون يحدد أصول المعاملة الضريبية بصورة استثنائية لهذه السنوات… فلا يمنع حقاً عن الخزينة ولا يظلم المكلّفين.
المحاسبون، إن كانوا يعملون في أقسام محاسبة أو في شركات متخصصة في المحاسبة والتدقيق، حائرون. كل ما اعتادوه في عملهم ليس صالحاً للتعامل مع حسابات 2020 و2021. سعر صرف الدولار كان ثابتاً لسنوات طويلة، لكنه منذ 2019 بدأ بتفلّت من سعره الرسمي. صار اليوم يساوي 600 في المئة من ذلك السعر. وهذا خلق ازدواجية محاسبية بين السجلات التي يفترض تسجيل الدولار فيها بحسب السعر الرسمي وبين السعر الفعلي للمبيع أو الشراء، عملت كل شركة على معالجتها بطريقة مختلفة. أيها الأصح؟ خلال عام كامل لم يكن أحد يملك الإجابة. حتى نقابة المحاسبين المجازين ظلت عاجزة عن الإجابة، إلى أن صدر قرار عن وزارة المالية يسمح بتسجيل العمليات بالسعر الفعلي، ومن دون الحاجة إلى مستندات لإثبات سعر شراء العملة الأجنبية. صدور المرسوم في اليوم الأخير من العام 2020، يعني أن أحكامه ستشمل حسابات 2021، خاصة أن حسابات العام الماضي قد أقفلت. قبل ذلك، عمدت غالبية الشركات إلى فتح حساب مؤقت لفروقات الصرف. هذا الخيار حلّ مشكلة الفوترة على سعر 1500 ليرة والتحصيل على سعر السوق، من دون أن يتضح إذا ما كان هذا الحل سليماً. البعض وضع الفارق في حساب المشتريات أو المبيعات، فيما عمدت شركات أخرى إلى مضاعفة السعر بالدولار الرسمي ليعادل السعر المدفوع بالدولار الفعلي. كل ذلك أدى إلى فوضى عارمة ونتائج محاسبية غير دقيقة ومضخّمة (أرباح طائلة)، ستنعكس حكماً في التصاريح التي يُفترض أن تقدّم إلى وزارة المالية في نهاية الشهر الحالي بالنسبة إلى الربح المقطوع، وفي نهاية آذار بالنسبة إلى الشركات التي تصرّح على أساس الربح الحقيقي، وفي نهاية شهر أيار بالنسبة إلى شركات الأموال.
حسابات 2021
يفترض أن تكون عمليات العام الحالي أكثر انتظاماً (من دون أن يعني ذلك أنها ستكون سليمة، خاصة إذا كانت مرتبطة بحسابات مفتوحة في العام الفائت). فقد اتفق على تطبيق القرار 893/1 لناحية تسجيل العمليات بسعرها الفعلي (سعر السوق) على أن يفتح حساب مستقل لعمليات تحويل العملة التي تتم في كل يوم. هذا يعني أن من لجأ إلى تسجيل الفوارق بين سعر الدولار المسجّل في العمليات المحاسبية وبين سعر المتداول في عمليات البيع في حساب فروقات الصرف كان الأقرب إلى الدقة في التعامل مع الحالة التي استجدت، من دون أن يعني ذلك وجود عمليات صحيحة بشكل كامل وأخرى غير صحيحة. يؤكد نقيب المحاسبين سركيس صقر أن كل الحلول التي اعتمدت كانت مؤقتة، لكنه يعتبر أنه حتى الحل الذي طرحته وزارة المالية، وأتى بطلب من المجلس الأعلى للمحاسبة، يصنف في خانة المؤقت، وهو حكماً لن يؤدي إلى معالجة كل الفوضى العارمة التي ستشهدها الحسابات المقدمة إلى المالية.
باختصار، فإن الواقع هو على الشكل التالي: تستورد الشركة بضاعة بألف دولار على سبيل المثال. في الجمارك، تسجل كلفة هذه البضاعة بمليون و500 ليرة، ثم تُسجّل الرسوم الجمركية على أساس السعر الرسمي. تخرج البضاعة من الجمارك، فيبيعها التاجر لزبونه بـ1100 دولار، أي ما يقارب 9 ملايين ليرة. ثم يدفع الضريبة على القيمة المضافة عليها، على السعر الرسمي، أي ما يقارب 180 ألف ليرة، في حين أن الضريبة الواقعية يفترض أن تصل إلى مليون ليرة. في هذه الحالة لا يمكن ضمان إذا ما كان يحاسب زبونه بالضريبة على أساس 1500 ليرة أو على أساس السعر الفعلي. في الغالب، معظم الشركات في تعاملاتها بعضها مع بعض تحتسب الضريبة على القيمة المضافة على سعر 1500 ليرة. لكن المشكلة تتعلق بالمستهلك النهائي. إذا كانت السلعة مسعّرة بالدولار شاملة الضريبة، فإن ذلك يعني أن الضريبة تحصّل من المستهلك بالدولار النقدي، أي وفق سعر السوق، فيما يعمد بعض التجار إلى دفعها إلى الإدارة الضريبية وفق السعر الرسمي، محققين أرباحاً كبيرة على حساب الخزينة وعلى حساب المستهلك النهائي. هذه الحالة لا تنطبق على المبيعات بالليرة. في السوبرماركت على سبيل المثال، تضاف 11 في المئة إلى الفاتورة، التي يكون المستهلك قد دفعها على أساس السعر الفعلي للدولار. لتفادي هذه الازدواجية، أصدرت وزارة المالية «إعلاماً» يذكر بوجوب التقيد بالمادة 25 من قانون حماية المستهلك، أي الالتزام بإصدار فواتيرهم بالليرة اللبنانية، بما فيها الضريبة على القيمة المضافة وتسليم المستهلكين هذه الفواتير.
حماية المستهلكين
يقول وزير المالية غازي وزني إن هذا التذكير يهدف إلى حماية المستهلكين من الغش الذي يمارس عليهم من قبل بعض التجار، وفي الوقت نفسه يعزز إيرادات الضريبة على القيمة المضافة. لكن في المقابل، فإن هذا الإعلام يطال أيضاً من كان يحاسب الزبون على أساس سعرين للدولار، سعر السوق بالنسبة إلى السلع التي يشتريها والسعر الرسمي بالنسبة إلى قيمة الضريبة. هؤلاء سيدفعون الضريبة مضاعفة 600 في المئة.
نقيب المحاسبين يؤكد أن التبليغ سيمنع المتربّحين من فارق الضريبة من الاستمرار في عملهم المخالف للقانون، لكنه يذكر أن المرسوم 7308 للعام 2002 يسمح باعتماد العملة الأجنبية في عمليات البيع، ويفرض احتساب الضريبة على القيمة المضافة وفقاً للسعر الرسمي. وقد جاء في المادة 18 ما يلي: في حال كان ثمن الخدمة أو المال محدداً بعملة أجنبية، ومن أجل احتساب أساس فرض الضريبة أن يحول هذا المبلغ إلى الليرة اللبنانية وفقاً لسعر الصرف الرسمي المعتمد بتاريخ إتمام عملية تسليم المال أو تقديم الخدمة.
أصحاب هذا الرأي كثر. وهم يطالبون بدلاً من تحتسب الضريبة على القيمة المضافة بحسب سعر السوق، أن يصار إلى إلزام التجار بالالتزام بالقانون والسماح للمستهلك النهائي بدفع الضريبة بحسب السعر الرسمي، تحت طائلة الملاحقة. يعتبر هؤلاء أن الدولة لا يمكن أن تعتمد سعرين للضرائب والرسوم. فكما الرسوم الجمركية تدفع على سعر 1500 ليرة يفترض أن تدفع الضريبة على القيمة المضافة على أساس السعر نفسه.
بحسب قراءة صقر للإعلام الصادر عن «المالية»، فهو يعتبر أنه يشير إلى العمليات التي تجرى مع المستهلك النهائي، مستنتجاً أن العمليات التي تجرى بين الشركات مستثناة، وبالتالي بإمكانها الاستمرار في احتساب الضريبة على السلع والخدمات المسعّرة بالدولار على أساس 1515 ليرة. مصادر مختلفة تؤكد أن هذا الأمر لا يمكن أن يستوي، لأن الفاتورة الصادرة ستكون مخالفة بالشكل، انطلاقاً من أن التعميم يشير إلى تقويم السعر بحسب القيمة الفعلية، وبالتالي على الضريبة على القيمة المضافة أن تساوي 11 في المئة من القيمة الفعلية للفاتورة، وأي اختلاف في هذه النسبة يعرّض صاحب الشركة المخالفة للغرامة.
اللافت أن أحداً لا يملك جواباً شافياً للطريقة الصحيحة في الاحتساب. حتى في المؤتمر الذي عقدته نقابة المحاسبية أول من أمس لشرح كيفية التعامل مع التعميم الأخير للوزارة (عبر تقنية الفيديو)، لم يسهم في إزالة الغموض الذي يكتنف عمل المحاسبين. الأخطاء ستكون هائلة بحسب العاملين في القطاع. فعلى سبيل المثال، لدى تسكير حسابات 2020، سيتبين أن الشركات التي كانت تملك مخروناً اشترته على أساس 1500 ليرة للدولار حققت أرباحاً هائلة بالمقارنة مع شركات لم تكن تملك مخزوناً واشترت على السعر الجديد للدولار. لذلك يطالب صقر بإعادة تقويم المخزون، ثم الاكتفاء بتكليف الشركات بضريبة تضخم.
استمرارية وثبات
يذكّر صقر بأنه في المحاسبة، لتكون النتائج صحيحة لا بد من توافر عاملين: الاستمرارية والثبات. وبالتالي ما دامت الفوضى مستمرة، فإنه لا إمكانية لنتائج سليمة. ولذلك، فإنه تبعاً لتسجيل كل شركة لسعر الصرف في العام 2020، سيكون بالإمكان رؤية سجلات خاسرة لشركة حققت أرباحاً كبيرة، والعكس صحيح.
كل هذه الإشكالات يحيلها نقيب المحاسبين السابق أمين صالح إلى السلطة السياسية التي فشلت في مواجهة الأزمة ولا تزال. يعتبر أن الترقيع في حل المشاكل التي تواجه المحاسبين لا يكفي. ويقول إن المطلوب إصدار قانون يحدد أصول المعاملة الضريبية بصورة استثنائية لهذه السنوات… فلا يمنع حقاً عن الخزينة ولا يظلم المكلفين.
يخشى صالح أن يؤدي الإهمال المتمادي في معالجة المشاكل المتراكمة التي يعاني منها القطاع إلى فتح الباب لتسوية ضريبية تستفيد منها في النهاية المصارف التي حققت أموالاً طائلة من المال العام.
مسألة التسوية طرحت بالفعل من قبل المحاسبين. هؤلاء يطالبون بإجراء تسوية على الحسابات غير المدققة منذ العام 2016 حتى اليوم (يحق لوزارة المالية التدقيق في حسابات أي شركة خلال ٥ سنوات من تصريحها عن الضريبة)، بحيث يسمح ذلك للشركات في إقفال دفاترها والتفرغ لتصحيح حسابات 2020، ثم الانطلاق في حسابات 2021 وفق قواعد واضحة. أما بالنسبة إلى المصارف، فلا ينفي صقر أن تكون أكثر المستفيدين من تسوية كهذه، ولذلك يشير إلى إمكان استثناء الشركات المالية من تسوية كهذه.
في غياب التشريع الواضح، تسعى كل إدارة إلى معالجة أوضاعها بما أمكن. الدولار الرسمي صار وهماً. والاعتماد عليه يتقلّص يوماً بعد يوم. حتى المؤسسات الرسمية تتخلّى عنه تباعاً. سبق أن سمحت وزارة المالية للشركات بتسجيل حساباتها بحسب «السعر الفعلي» للدولار، ومؤخراً فرضت التسعير بالليرة اللبنانية، بهدف تجنّب تحصيل الضريبة على القيمة المضافة على السعر الرسمي للدولار. لكن قبلهما كانت البلديات ومن خلفها وزارة الداخلية تبحث عن إجابة على سؤال: أي سعر للدولار يتوجّب اعتماده في معاملات تخمين ثمن المتر البيعي للعقارات؟ هذا السؤال حوّلته وزارة الداخلية إلى ديوان المحاسبة في ١٥ أيلول الماضي، والأخير أصدر، في 24 كانون الأول 2020، رأياً استشارياً، دعا إلى «تخمين سعر المتر العقاري بالليرة اللبنانية سواء تناول الموضوع عقد البيع أو الشراء أو تسوية مخالفات البناء، وذلك وفقاً للأسعار الرائجة في السوق».
ترى مصادر متابعة أن رأي الديوان يعبّر عن استعجال الدولة زيادة إيراداتها من الضرائب والرسوم من دون إجراء أي دراسة علمية تحدّد فوائد ومضار إجراء كهذا على الاقتصاد. ويسأل المصدر: ماذا لو اشترى أحدهم أرضاً بشيك مصرفي بالدولار؟ ويضيف: بحسب رأي الديوان يُفترض أن يتم تقييم عقاره بالدولار السوقي، أي بما يزيد عن ١٠٠ في المئة من السعر المدفوع. فهل تعيد المصارف الوديعة بقيمتها السوقية، حتى يتم تقييم العقار على أساس هذا السعر، في الوقت الذي تقيّد فيه السحب حتى على ٣٩٠٠ بمبلغ محدود شهرياً، فيما يُفترض بمن يريد السحب أكثر أن يسحب على سعر ١٥٠٠ ليرة؟
يعتبر رئيس الديوان محمد بدران أن الدولة اللبنانية لا علاقة لها بسعر الصرف، والبلدية هي قطاع عام ويفترض أن تسعّر بالعملة الوطنية. وأشار إلى أن هذا الأمر لطالما كان معمولاً به، لكن بسبب ثبات سعر الصرف كان البعض يغضّ النظر عن عملية التخمين. يقول إنه إذا لم يعتمد ذلك فإن حقوق البلديات ستضيع، إذ لا يعقل، على سبيل المثال، أن يكون سعر المتر بـ4000 دولار في منطقة، ثم يتم تحصيل الرسوم على اعتبار أن هذا المبلغ يساوي ٦ ملايين ليرة فقط. هذا سيؤدي إلى إجحاف كبير بحق الدولة وعائداتها، يقول بدران، مشيراً إلى أنه «لا يجوز أن تتم تسوية مخالفات البناء إلا على السعر الحقيقي للعقار».
مع ذلك، يقرّ رئيس الديوان أن كل الإجراءات التي تنفّذ هي إجراءات موضعية، فيما المطلوب حلّ تشريعي واضح يُعالج الثغرات التي نتجت عن انهيار سعر صرف الدولار. لكنه يتوقع أن تستمر الفوضى التشريعية إلى حين استقرار سعر الصرف.