في زحمة الموت، حيث تتشابك صرخات الفقد مع صمت العالم المطبق، يقف لبنان مثقلاً بدمائه وحطامه، شاهداً على فصول مأساة جديدة فجّرها العدوان الإسرائيلي. نزوح جماعي أشبه بطوفان، حمل معه قصص الألم والعزيمة، حيث ترك نحو مليون شخص منازلهم المدمرة، ليلجأوا إلى مراكز إيواء ضاقت بهم وبأحلامهم. كان الشتاء يمدّ أذرعه القارسة، بينما تحوّلت القرى الجنوبية إلى لوحة رمادية من الدمار، وكان الأمل مجرّد سراب يطارد النازحين في رحلة البقاء.مع توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بعد شهرين من الموت والدمار، بدأت بعض العائلات رحلة العودة إلى قراها، لكن العودة لم تكن متاحة للجميع. ظل مئات النازحين عالقين، بعد أن فرض الجيش الإسرائيلي حظراً على عودتهم، وكأن مصيرهم أن يبقوا بين جدران مراكز الإيواء، حيث يختلط شبح الحرب بعبء الحياة اليومية. هذه المراكز، التي تحولت إلى معازل قسرية، تشهد يومياً معركة وجودية للحصول على الضروريات الأساسية، بينما يرتفع صوت الشتاء محملاً برداً يأكل الجسد والروح.
لكن التحديات الكبرى ليست فقط في النزوح والصقيع، بل في المشهد الاقتصادي القاتم الذي يعصف بالبلاد. كيف يمكن للنازحين الذين دُمّرت منازلهم أن يفكروا في إعادة الإعمار، في وقت ترتفع فيه أسعار مواد البناء بشكلٍ جنوني؟ أصبح الحديد مثل الذهب، والزجاج والألمنيوم كالأحلام، لا يطالها إلّا القليل. تشير التقارير الأخيرة إلى أن أسعار مواد البناء تضاعفت في بعض المناطق بفعل الطلب المتزايد وشح الإمدادات، مما يجعل إعادة بناء منزل مدمّر رفاهية لا يقدر عليها سوى القلّة.
في خضم هذا الواقع، تُطرح تساؤلات حارقة: هل يمكن للدولة، التي تُكابد أزمات سيولة خانقة، أن تُحدث فرقاً في حياة هؤلاء النازحين؟ كيف يمكن لآليات التعويض البطيئة أن تتصدّى لاحتياجات آلاف العائلات التي تنتظر إعادة إعمار منازلها؟وفي ظل غياب التمويل الكافي، يتبدّى سؤال أكثر حدّة: هل تُترك هذه المهمة على عاتق النازحين أنفسهم، أم أن الجهات المانحة ستفي بوعودها في مشهدٍ لا يقلّ تعقيداً عن الحرب نفسها؟ هنا، يظهر التحليل السياسي ليكشف عن أزمة أعمق تعكس هشاشة النظام السياسي والإغاثي في لبنان، حيث يبدو التخطيط غائباً والحلول مؤجلة
وفي النهاية، هل يمكن لهذه القصة أن تنتهي بعودة النازحين إلى قراهم؟ أم أن الأنقاض ستبقى شاهدة على مأساة لا تُمحى؟ في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار مواد البناء كحاجز آخر، وتتأخّر التعويضات كحكم مؤجل على حياة المتضررين، ويبدو أن الطريق إلى المنازل المدفونة تحت الرماد أطول مما يُتصور. هل تُكتب النهاية على يد مجتمع يرفض الاستسلام؟ أم أن الحرب تظل علامة فارقة في ذاكرة وطن جريح؟
عودة تحت الرماد وأرقام فوق الطاولة
تتأرجح أزمة النزوح في لبنان بين أرقام تتكرر على ألسنة المسؤولين وحقائق تحكيها المراكز المتبقية لاستضافة من لم يجدوا طريق العودة إلى منازلهم. بعد سريان وقف إطلاق النار، برزت إحصاءات تفيد بوجود 150 ألف نازح لم يتمكنوا حتى الآن من العودة إلى ديارهم، وسط حديث عن 341 خرقاً للهدنة من قبل إسرائيل، وكأن الزمن يكرر نفسه تحت ستار هدنة مشروطة لا تمحو آثار الحرب ولا تهدئ من تبعاتها الإنسانية.وللوقوف على مدى دقة هذه الإحصاءات، لجأت «اللواء» إلى الجهات المعنية لاستجلاء الحقائق حول أعداد النازحين الذين لا يزالون يقطنون في مراكز الإيواء ضمن بيروت الكبرى. وتشير مصادر موثوقة إلى أن المراكز المتبقية تحتضن ما تبقّى من المهجرين. هؤلاء لا يملكون خياراً سوى انتظار المجهول، بين منزل مدمّر وآخر تحوّل إلى ركام.في سياق متصل بهذا الوضع، فان 341 خرقاً ليس مجرد رقم؛ إنه انعكاس لواقع يطفح بالتوتر، حيث لا يزال السلام هشاً والنزوح متواصلاً. كل خرق يمثل تحدّياً جديداً للأمن والاستقرار، يعيد للأذهان مشاهد الدمار والتهجير، ويثير تساؤلات حول جديّة المجتمع الدولي في ضمان تنفيذ اتفاقات وقف إطلاق النار.
عودة مؤجّلة تحت وطأة التعقيدات
لم تعد الأزمة مجرّد معضلة نزوح؛ بل أصبحت محنة وطن، يتصارع مع جراحه القديمة والجديدة. وفي حين أن بعض المراكز باتت تفرغ تدريجياً، يظل البعض الآخر مأوىً لمن لا بديل لهم. هنا يتكرر المشهد: أسرة تنتظر ترميم منزلها، أو أخرى عجزت عن استئجار شقة بسبب أسعار الإيجارات المرتفعة.
النهاية.. واقع يطول شرحه
بين لغة الأرقام واستمرار المأساة، يبقى النازحون العالقون في المراكز والمنازل غير الصالحة للسكن أبطال قصصهم التي لا تُحكى. في ظل وعود بالإصلاح والترميم، لا يبدو أن هذه المعاناة ستنتهي قريباً، ما دامت الحلول تسير بوتيرة أبطأ من الآم الناس.
من 183 مركزاً الى 9!
من جهتها، توضح منسقة وزارة الشؤون الاجتماعية في خلية الأزمة في محافظة بيروت، الدكتورة سهير الغالي، لـ «اللواء» أنه «خلال الحرب، تم تشكيل خلية أزمة تترأسها اللجنة الوزارية، بالإضافة الى خلايا أزمة على مستوى المحافظات. لذلك جميع الإجراءات التي اتُخذت إبّان الاشتباكات المحتدمة لا تزال متبعة حتى الآن».وتضيف «على صعيد بيروت، توجد غرفة عمليات خاصة بإدارة الأزمات والكوارث، برئاسة السيد سامر يعقوب، وهو رئيس دائرة محافظة بيروت ومستشار المحافظ. نحن نسميها (DRM)، وهي تتكوّن من مجموعة أشخاص يتولّون الأعمال بحسب اختصاص كل فرد منهم. وتشمل الصليب الأحمر وضباطا، وممثلين عن وزارة الشؤون الاجتماعية. نحن موجودون وننسق مع المحافظة في إطار زيارة المراكز وإحصاء العدد الموجود في بيروت، حيث يوجد ضمن بيروت ما يقارب 9 مراكز إيواء. نقوم كمؤسسة رسمية بالمسح والزيارات لهذه الأماكن لمعرفة احتياجات الأهالي النازحين».
انخفاض عدد مراكز الإيواء
وتتابع الغالي، «نقوم الآن بعميات الجرد وتقييم الأعداد والاحتياجات بالتعاون مع الأشخاص المعنيين في (DRM). بعد وقف إطلاق النار، عاد عدد كبير من المهجرين إلى منازلهم ومناطقهم، وأغلقت العديد من المراكز، علماً بأنه كان هناك نحو 184 مركز إيواء في بيروت فقط. حالياً، لدينا 9 مراكز فقط، تحتوي على 1125 نازحاً. أغلبية هؤلاء إمّا ان منازلهم غير صالحة للسكن أو مدمرة كلياً، ولم يجدوا مكاناً للإيجار أو بديلاً للانتقال، ولذلك لا يزالون يقطنون في مراكز الإيواء حتى يتم ترميم وتأهيل بيوتهم ليتمكنوا من العودة إليها».
تقديم المستلزمات قائم!
وتكشف الغالي لـ «اللواء»: «نحن نوفر المتطلبات بنفس الآلية التي عملنا بها سابقاً، حيث ننسق مع المؤسسات الدولية والجهات الحكومية عن طريق خلية الأزمة. لدينا ممثلون عن منظمات الأمم المتحدة، وتُجرى اجتماعات يترأسها محافظ بيروت، تُعرض خلالها الاحتياجات بشكل أسبوعي على الجهات المعنية كاليونيسف أو الـUNDP وغيرهما. تم توزيع ملابس والطعام ووجبات غذائية يومياً، إلى جانب مياه الشرب والملابس الشتوية. أما وزارتي الطاقة والشؤون الاجتماعية، فتؤمنان التدفئة أو المازوت لمراكز الإيواء بدعم من الدولة اللبنانية، بما في ذلك الإنارة»
منصة إلكترونية لتسجيل النازحين
وتشير إلى أنه، «تم إطلاق منصة عبر الروابط الإلكترونية بعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار لتسجيل النازحين الموجودين في المحافظات. يظهر التسجيل الأوّلي إلى وجود 5000 عائلة نازحة في بيروت تقيم في منازل مؤقتة. يتم التواصل مع هؤلاء لتحديد احتياجاتهم من خلال فرق عمل وزارة الشؤون الميدانية، وعلى أساسها تُقدَّم الخدمات وفق برامج الوزارة وخطط الحكومة».
الصعوبات الرئيسية
وحول أبرز التحديات، تقول الغالي: «بما أن عدد المراكز انخفض إلى 9، فلا توجد صعوبات كبيرة. يتم تأمين الاحتياجات المطلوبة، والعقبة الرئيسية التي نواجهها تكمن في إيجاد النازحين بشكل دائم في مراكز الإيواء. في بعض الأحيان، يغادر البعض إلى منازلهم الأصلية للإشراف على عملية ترميمها، ثم يعودون ليلاً. هذا يعرقل أحياناً برامج التوعية والدعم النفسي والاجتماعي التي ننفذها بالتعاون مع الجمعيات الدولية والمحلية».وعن الخطط المستقبلية، تؤكد الغالي: «المراكز التسعة الحالية هي ممتلكات خاصة، وبعضها فنادق أو مراكز بديلة مثل (فرح العطاء) في الكرنتينا. الخطة تقضي بإغلاق هذه المراكز تباعاً وإعادة تموضع النازحين في مركزين أساسيين هما المدينة الرياضية و(فرح العطاء). هناك أيضاً عائلات غادرت المراكز واستأجرت منازل مؤقتة بمساعدة جهات محلية، بينما الأسر التي لم تتمكن من ذلك تبقى مضطرة إلى البقاء في مراكز الإيواء».
الرعاية الصحية والتعليم
وتشدّد الغالي على انه «لا تزال تُطبَّق الآلية السابقة للرعاية الصحية، وهناك مراكز رعاية صحية أولية تابعة لوزارة الصحة منتشرة في بيروت، وهي متاحة للجميع. النازحون في مراكز الإيواء قادرون على التنقل لطلب الخدمة عند الحاجة. وتواصل فرق الصليب الأحمر تقديم اللقاحات مجاناً، وبعض المؤسسات الصحية تجري زيارات ميدانية. التركيز الأكبر حالياً هو على الدعم النفسي والاجتماعي، إذ نقدّم جلسات دعم نفسي-اجتماعي للنازحين».وتختتم بالتنويه الى انه «تم فتح صفوف تعليمية في بعض المراكز لتقديم الخدمات التربوية للأطفال. أما الطلاب في أماكن أخرى، فقد تم تسجيلهم في مدارس رسمية أو قريبة من مراكز الإيواء».