في خضم الحروب والنزاعات، يواجه الإنسان أزمات وجودية تتجاوز حدود الدمار المادي لتصل إلى عمق الروح والذات. لذا، يعد التهجير القسري الذي يُجبر فيه ومجتمعه، تجربة قاسية تهز توازنه النفسي والاجتماعي، حيث يُرغم على مواجهة المجهول والعيش في ظروف محفوفة بالمخاطر. وعند العودة إلى الوطن بعد انتهاء الحرب، يجد المهجّر نفسه أمام واقع مرير، إذ تتحول المنازل إلى أنقاض والذكريات إلى أطلال، مما يعمق الشعور بالقلق الوجودي المرتبط بفقدان السلام وضبابية الأيام المقبلة.
مفهوم القلق العميق وعلاقته بالنزوح
يوضح عضو في نقابة الاختصاصيين النفسانيين والاجتماعيين لـ “الديار” ان “القلق الوجودي هو حالة نفسية معقدة، تنشأ عندما يواجه الإنسان أسئلة جوهرية حول معنى الحياة والهوية والمستقبل. يرتبط هذا النوع من الاحتقان النفسي، ارتباطا وثيقا بالأحداث التي تفقده الشعور بالأمان والاستقرار، مثل الحروب والتهجير الاجباري. فبالنسبة للمهجرين يتحول هذا الاضطراب إلى توتر مستمر، نتيجة فقدانهم منازلهم وذكرياتهم، والتأقلم مع واقع جديد لا يشبه الماضي الذي تركوه خلفهم”.
ما هي أسباب هذا الاختلال؟ يجيب الاختصاصي “يتطور القلق الوجودي لدى المهجرين نتيجة عدة عوامل مترابطة، من أبرزها:
1- فقدان الشعور بالطمأنينة: يخلق النزوح إلى أماكن مؤقتة شعورا بالاغتراب والضعف، حيث لا يمكن للبيئة الجديدة، أن تعوض الروابط العاطفية والنفسية التي كانت متصلة بالمنزل الأصلي.
2- الرعب من الغد: تتزايد التساؤلات لدى المهجرين حول مصيرهم ومصير ممتلكاتهم: “هل يمكننا العودة؟ هل سنستعيد حياتنا؟” يعمق هذا الخوف من المجهول إدراك الهم، ويؤثر في القدرة على التخطيط للمستقبل.
3- فقدان الهوية الاجتماعية: يرتبط المنزل والمجتمع بالمكانة الاجتماعية والهوية الفردية، لذلك ينجم عن فقدان هذه الروابط احساس بالضياع والفراغ.
4- هزّات ما بعد العودة: يصطدم المهجرون عند عودتهم إلى ديارهم بمشاهد الدمار والخراب، ما يعيد فتح جروح نفسية قديمة، ويجعلهم يشعرون بالغربة حتى في أرضهم.
الآثار النفسيّة والاجتماعيّة للإنشغال الذهني
ويضيف “تنعكس تأثيرات القلق الوجودي على جوانب حياة المهجرين النفسية والاجتماعية والجسدية من خلال الأمور الاتية:
1- اليأس والاستسلام: يشعر المهجرون بالعجز أمام الواقع المدمر، مما يؤدي الى اليأس وعدم القدرة على اتخاذ خطوات عملية لإعادة بناء حياتهم.
2- التوترات العائلية والاجتماعية: قد تولد الضغوط النفسية المشتركة خلافات داخل الأسرة، حيث يصبح كل فرد منشغلًا بصراعه الداخلي.
3- الانعكاسات الجسدية: يسبب القلق الوجودي أعراضا جسدية مثل الأرق، التعب المزمن، واضطرابات الجهاز الهضمي، مما يزيد من معاناة المهجرين.
4- النتائج المترتبة على الأطفال: يعاني الأطفال بصمت في هذه المواقف، حيث يؤثر القلق وانعدام الأمان في تطورهم النفسي والاجتماعي، وقد تظهر عليهم علامات مثل نوبات البكاء، التوتر، واضطرابات السلوك”.
آلية التعامل مع هذا الوضع
من جانبها، تنصح الاختصاصية النفسانية والاجتماعية غنوة يونس عبر الديار باتباع عدة استراتيجيات علاجية، من أجل تخفيف العبء النفسي الناتج من القلق الوجودي، من بينها:
1- الدعم النفسي المتخصص: يمكن أن يساعد العلاج النفسي الفردي والجماعي المهجرين على فهم مشاعرهم، والتعامل مع الصدمات النفسية. كما قد يمنحهم فرصة لمشاركة تجاربهم والشعور بأنهم ليسوا وحدهم في هذا الصراع.
2- الايمان بالمستقبل: تساعد إعادة بناء الثقة، الأفراد على استعادة الشعور بالأمان والاستقرار بعد التعرض لصدمات عميقة. كما توفّر للمهجر القدرة على التحكم في حياته ومستقبله، مما يمكّنه من مواجهة المجهول والتكيف مع التحديات الجديدة.
3- خلق بيئة داعمة: يؤمن تأسيس مراكز اجتماعية مساحات آمنة للمهجرين للقاء والتفاعل أمرا بالغ الاهمية. تلك الأماكن يمكن أن تُعيد الروابط الاجتماعية وتعزيز التضامن بين الأفراد.
4- التركيز على اللحظة الحاضرة: تسهم تقنيات مثل التأمل والوعي التام (Mindfulness) في تخفيض القلق والتركيز على الإيجابيات في حياتهم اليومية، مما يقوي قدرتهم على التكيف مع المواقف الصعبة.
ماذا نعني بمصطلح النمو النفسي والاجتماعي بعد الأزمات؟ تجيب يونس موضحة ان “النمو النفسي هو عملية مستمرة تهدف إلى ترسيخ قدرة الفرد على المواءمة، مع تحديات الحياة ومواجهتها بشكل إيجابي. عند المرور باختبارات مؤلمة أو صعبة مثل التهجير، يمكن ان تصبح هذه الاحداث بمثابة دافع للنمو، إذا تم التعامل معها بوعي وعقلانية. فالنمو النفسي لا يعني مجرد تجاوز الأزمات، بل هو رحلة من اكتساب الحكمة والقدرة على التكيف، حيث يتعلم الانسان أن يرى الفرص في وسط المعاناة”.
وتقول “على الرغم من المآسي التي يمر بها المهجرون، الا ان المحن قد تشكل فرصة للنمو النفسي. يتعلم العديد من هؤلاء مواجهة الصعاب بروح إيجابية، ويكتسبون مرونة وصبرا أكبر، مما يعينهم على إعادة بناء حياتهم بشكل أقوى وأكثر صلابة”.
وتختم يونس بالتنويه الى انه “في النهاية، يُعتبر القلق الوجودي حالة نفسية عميقة، يعاني منها المتضررون بسبب خسارتهم لمنازلهم ومجتمعاتهم. لكن، يتطلب التعامل مع هذه الحالة دعما نفسيا ومجتمعيا متكاملاً، يساهم في تخفيف العبء النفسي وإعادة بناء الثقة بالمستقبل. فالمسألة ليست فقط إعادة إعمار الحجر، بل الأهم من ذلك إعادة إعمار النفس والروح، مما يجعل هذه الأزمة فرصة للنمو النفسي والاجتماعي”.