أنُجزت اتفاقية الترسيم البحري بين لبنان والعدو الإسرائيلي لهدفين أساسيين: الأول، تأمين الغاز والنفط الى القارّة الأوروبية، والثاني، أن يبدأ “الإسرائيلي” بعملية سحب الغاز وإنتاجه من حقل “كاريش” وتصديره الى الدول الأوروبية سريعاً. أمّا الهدف الثالث والأقلّ أهمية، فهو دخول لبنان نادي الدول النفطية، وتبدأ شركة “توتال” عملها في البلوك 9 في بداية العام المقبل، لكي يلحق بعد سنوات دول المنطقة التي وقّعت عقوداً مع أوروبا لتأمين الغاز والنفط لها. وكان يُنتظر بعد إبرام الإتفاقية برعاية أممية ووساطة أميركية في 27 تشرين الأول الفائت، حصول “تنفيسة” داخلية ما في الواقع الإقتصادي، أو هبوط سعر صرف الدولار الأميركي، غير أنّ هذا الأمر لم يحصل، على ما كان متوقّعاً.
وكانت شركة “إنرجين” التي ترسو سفينتها في المياه الإقليمية منذ حزيران الماضي قد أعلنت عن بدء استخراجها أولى كميّات الغاز من حقل “كاريش” في شمال المياه الفلسطينية المحتلّة بأمان، بعد حصولها على إذن من حكومة العدو، وأنّ تدفّق الغاز يتزايد بإطراد، وذلك قبل يوم واحد من توقيع الإتفاقية بين لبنان والعدو الإسرائيلي. فماذا عن لبنان، وما هي الخطوات التي عليه اتباعها، رغم دخول البلاد مرحلة الشغور الرئاسي بعد انتهاء عهد رئيس الجمهورية ميشال عون وعدم انتخاب رئيس جديد، فضلاً عن عدم تمكّن الحكومة المستقيلة، وحكومة تصريف الأعمال من القيام بصلاحيات رئيس الجمهورية بالوكالة؟
تقول أوساط ديبلوماسية مواكبة لملف النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط، بأنّ شركة “توتال إنرجيز” الفرنسية قد أعلنت قبل أيّام من توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، بعد زيارة وفد رفيع المستوى من الشركة لبنان ولقائه المسؤولين اللبنانيين، بأنها ستجلب منصّة الحفر الى المياه اللبنانية ابتداء من العام 2023 لبدء الإستكشاف والتنقيب، وفق نصوص الإتفاق الموقّع مع هيئة إدارة قطاع البترول في لبنان، من دون أن تُحدّد موعداً معيّناً لكي لا يتمّ اتهامها لاحقاً بالتأجيل والمماطلة في حال حصول أمر ما اضطرّها الى تأخيره. والمعروف عن “توتال” أنّها شركة عالمية يهمّها تسيير أمور عملها وجني الأرباح، وقد حقّقت خلال العام الماضي أرباحاً بقيمة 8 مليارات دولار، لهذا فإنّ الشغور الرئاسي في لبنان لن يؤثّر على خططها بشكلٍ أو بآخر، سيما وأنّها في صدد إنجاز المعاملات والإجراءات الإدارية اللازمة لتكون جاهزة الى المجيء الى لبنان في العام المقبل. كما وأنّها تُنسّق عملها مع هيئة قطاع البترول التي تتلقّى تباعاً المعطيات المتوافرة خلال عمليات التنقيب.
وحتى الآن لا مشكلة في ذلك، على ما أضافت الاوساط، لأنّ المعاملات تتطلّب وقتاً، ويُمكن أن يقوم المجلس النيابي بانتخاب رئيس الجمهورية الجديد أثناء هذه المدّة. وبطبيعة الحال، فإنّ شركة “توتال” ستأتي لبدء التنقيب في “البلوك 9” لتعويض الوقت الذي انقضى بفعل المفاوضات غير المباشرة بين لبنان والعدو الإسرائيلي لترسيم الحدود البحرية، خصوصاً وأنّها ألمحت أنّها لن تعود لتستثمر أموالها في منطقة متنازع عليها وغير آمنة. أمّا اليوم، بعد توقيع الإتفاقية، فقد انتفت هذه الذريعة، إذ من المتوقّع أن تشهد المنطقة الجنوبية الحدودية سنوات من الهدوء والإستقرار في حال التزم الطرفان ببنود الإتفاقية ولم يقم أحدهما بخرقها.
وينتظر لبنان بالتالي نتائج الإنتخابات التشريعية “الإسرائيلية” الرسمية، على ما أوضحت الأوساط نفسها، لمعرفة ما الذي سيُقرّره بنيامين نتنياهو في حال فوزه مجدّداً برئاسة الحكومة، سيما وأنّه سبق وأن توعّد بنسف اتفاقية الترسيم التي وقّعت عليها حكومة يائير لابيد. علماً بأنّ ثمّة بندا في الإتفاقية يحميها من أي “طعن” إذا صحّ التعبير، ينصّ على أنّه لا يُمكن تقديم إحداثيات جديدة مستقبلاً بشأن خط الترسيم الذي جرى الإتفاق عليه بين الطرفين. غير أنّ لبنان يبقى حذراً، سيما وأنّ ما وُعد به، بأنّ تبدأ عمليات الإستكشاف والإستخراج في بلوكاته البحرية، لا سيما في حقل “قانا” يحتاج الى أشهر لكي يتحقّق. مع الإشارة الى أنّه على “توتال” دفع جزاء للبنان عن تأخّرها في بدء عملها في البلوك 9، قيمته 250 مليون دولار، وبإمكانها دفع هذا المبلغ وعدم العودة اليه، في حال حصول موقف سياسي أو طارىء ما من العدو الإسرائيلي نجح في عرقلة عملها.
وبرأي الاوساط، أنّه بعد توقيع اتفاقية الترسيم البحري، على لبنان تهيئة الأرضية المناسبة لما بعد هذا التوقيع، مثل فتح باب التراخيص الثانية لتلزيم بلوكاته النفطية، والمطالبة بأن تأتي شركات صينية وماليزية وروسية وغيرها وتنضمّ الى المناقصة، لا سيما بعد خروج “نوفاتيك” الروسية من “كونسورتيوم” الشركات الذي فاز بدورة التراخيص الأولى، والذي ترأسه “توتال” ويضمّ الى جانبها “إيني” الإيطالية، و “نوفاتيك” الروسية التي انسحبت من التحالف قبل توقيع الإتفاقية. كذلك لا يتمّ التعاون من قبل الحكومة مع شركة “روز نفط” الروسية العاملة في طرابلس، كونها تؤيّد خطّة مشرقية لإقامة أعمال إقتصادية وتجارية مع الأردن. غير أنّه لا يُمكن للبنان تجاهل مثل هذه الشركات العالمية التي يُمكنه التعاون معها، سيما وأنّ المصلحة الوطنية تقضي بتنويع لبنان لمصادره في الخارج.
وذكرت الأوساط عينها بأنّ مساحة المنطقة الإقتصادية الخالصة التابعة للبنان تبلغ 22 كلم2 وقد جرى مسحها بثنائي وثلاثي أبعاد لتلمّس الحقول النفطية الموجودة في البحر، وهي مساحة كبيرة وواعدة بحقول نفطية غزيرة الإنتاج مثل البلوكين 5 و8 فضلاً عن البلوك 9 وسواه. ولهذا على لبنان البدء منذ الآن، السعي مع دول المنطقة لمعرفة في أي خطّ أنبوب سيدخل عندما تبدأ “توتال” بعملها في حقل “قانا”، والإستفادة من حاجة الدول الأوروبية للغاز والنفط، قبل أن تتمكّن دول المنطقة، لا سيما العدو الإسرائيلي من سدّ هذه الحاجة من خلال الإتفاقيات التي يعقدها مع دول الجوار.
فالخطة الأميركية- “الإسرائيلية” تقضي اليوم، على ما عقّبت الاوساط، بالعمل مع مصر في حقول “كاريش” و”تمار” و”ليفياثان”. وقد تمكّنت شركة “إسرائيلية” تحمل إسم “نيوميد إنرجي”، سابقاً “ديليك غروب” تعمل في مجالات إستكشاف وتطوير وإنتاج الغاز الطبيعي، منذ نحو شهر، من شراء 90 % من إنتاج مصر، من حصّة شركة “كابريكورن” البريطانية العاملة فيها منذ سنوات، وبناء تحالفات استراتيجية مع شركاء آخرين من الولايات المتحدة وأوروبا والأردن والإمارات العربية. وجرى وصف هذا الإتفاق بالتاريخي وبظهور “عملاق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للغاز والطاقة”، سيما وأنّه يشمل حقل “ظُهُر1 و2” المصري (وهو يُعتبر أكبر حقل غاز في مصر تمّ اكتشافه في البحر الأبيض المتوسّط في العام 2015، من قبل “إيني” الإيطالية”، متجاوزاً حقل “ليفياثان” ويضمّ نحو 30 تريليون قدم مكعّب)، ما من شأنه رفع إنتاج الشركة بحلول العام 2030، وتصديرالغاز الى أوروبا عبر خط أنابيب جديد يربط الحقول “الإسرائيلية” بمحطات إسالة الغاز الطبيعي المصرية. من هنا، على لبنان التفتيش عن خط أنابيب لا تدخل فيه “إسرائيل”، سيما وأنّه أكّد أنّ الإتفاقية معها ليست أي نوع من أنواع “التطبيع”، ولن تكون.