كلّما دنا الشّعب اللبناني من موعده المنتظر لانقضاضه على جلّاديه “ديمقراطياً”، سترتفع بوجهه مشهديّات لا نهاية فيها للمطوّلات التّهويليّة كما سيجد نفسه مُعرّضاً لوابل من الفتاوى التّيئيسيّة التي ترفع لواء نسف أي قدرة على التّغيير والمحاسبة.
آخر فصول هذه الموجة هي الكلمات التي تفشّت من بعبدا والضاحية، فأطلقت الأولى جدلاً واسعاً حول نهاية ولاية الرئيس ميشال عون وما سيُرافقها، وجزمت الثانية بعدم قدرة الأكثرية النيابية على إعادة تشكيل السلطة التنفيذية بمفردها.
رغم توضيح رئيس الجمهورية لكلامه وتأكيده مغادرة موقعه لحظة انتهاء ولايته، بقيت الشّكوك تحوم حول مقصده من عدم تسليمه الرئاسة لِمَن لا يُشبهه وترداده احتماليّة الاستمرار في حال طُلِبَ منه ذلك برلمانياً. هنا، استعاد معظم الجمهور اللبناني ما شهده لبنان أواخر الثمانينات، عندما أطلق عون شرارة المواجهة في كلّ الاتّجهات وكسر كلّ التّوقعات ورفض التّسليم للأمر الواقع الذي أنتجه بنفسه.
إستعادة المشهد في عالم السياسة أمر طبيعي ولكن، لا بُدّ من التوقّف عند بعض المُعطيات التي تنسف فرصة تكرار ما حصل.
في الماضي، كان الرئيس عون يملك العديد من نِقاط القوّة التي مكّنته من تأمين عدد من الحصانات لكنّه اليوم فقدها لا بل باتت مرتدّة بشكل مُعاكس على وضعيّته.
“الحصانة الشّرعيّة” التي استمدّها عون سابقاً بفعل تربّعه على رأس المؤسّسة العسكريّة، سيفقدها منتصف ليل 30-31 تشرين الاول 2022، بحكم الدّستور ولن يستطيع سوى التّسليم بكونه باتَ رئيساً سابقاً للجمهوريّة، لأنّ حتّى “أمر القوّة” الذي حاول حزب الله أن يفرضه على المؤسّسات الدّستوريّة عبر القمصان السّود واجتياح العاصمة وتطويق السراي الحكومي، اضطرّ أن يُنفّذه عبر أدوات برلمانيّة بالاقالة والتأليف، قد لا تتوفّر لدى عون للتّمديد أو التّجديد.
سابقاً، تمترس عون خلف السّلاح الشّرعي بوجه “الميليشيات” التي شنّ حروباً عليها تحت مُسمّى “توحيد البندقية” ما منحه “حصانة مؤسّساتيّة” ثبّتت مشروعيّة خطابه، لكن بعد ثلاثة عقود، يتنقّل عون حتّى على المنابر الخارجية للدّفاع عن السّلاح اللاشرعي وكأنّه باتَ رئيساً لدويلة لا للدولة.
الأكثرية الشعبيّة العارمة التي حاوطت عون و”قصر الشعب” باتت اليوم متآلفة أكثر، ولكن بوجه “العهد” وأربابه، مُعلنةً في أكثر من ميدان إسقاط “الحصانة الشعبيّة” عن عون وكلّ مَن في المنظومة الحاكمة، وما انتخابات العام 2022 النيابية سوى محطة لترسيخ ذلك.
حصانة أخرى لم يعد يستطيع عون التّحكّم بها وهي “الحصانة الخِطابيّة” التي لعبت دوراً مركزياً في جذب التأييد الشعبي لارتكازها على سِمات وطنيّة حملها معه لما بعد عودته من المنفى وصولاً لانطلاقة عهده، تقوم على انقاذ الدولة وترسيخ الحضور المسيحي ومكافحة كلّ أوجه الفساد؛ ولكن مع انهيار الدولة برمّتها، ومتابعة المسيحيين كما كلّ اللبنانيين قرع أبواب الهجرة، ومع تفشّي الفساد والمحسوبيات والزبائنيّة وارتفاع منسوب الكلام عن الصّفقات والسّمسرات في العهد الحالي، خلف أيّ خِطاب سيتحصّن؟
على المقلب الثاني، يرنو كلام “حزب الله” عن عدم إمكانيّة الأكثريّة النيابيّة التي ستتولّد بعد الانتخابات العامّة الاستفراد في الحكم، كالاعتراف المُسبق بالهزيمة من جهّة والرسالة الموجّهة لبيئته كتحضير تمهيدي لخسارته السلطة من جهّة ثانيّة.
كلام الحزب الذي جاهر به رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد، “لبنان لا يُحكم بمنطق الاكثرية… والاكثرية التي حكمت لم تستطع أن تحكم”، يُعيد الاضاءة على المعايير الدّستوريّة وبدعة “الاكثرية التوافقيّة” التي تُطيح مبدأ حكم الموالاة ودور المعارضة.
يحمل كلام رعد رسالة أمنيّة أكثر منها سياسيّة، لكن في واقع الحال لا مفعول دستورياً لها، ويحضر ردّاً عليه كلام أمين عام “حزب الله” عام 2006، “الاكثرية النيابية التي يفوز بها اي طرف في الانتخابات المقبلة (انتخابات العام 2009) هي التي تحكم والاقلية تعارض”، بالرّغم من أنّ نصرالله عاد وانقلب على نفسه عندما تلمّس خسارته الحتميّة للاكثريّة. من هذا المنطق، يظهر “حزب الله” كصاحب “الوعد المتلوّن” الذي يتّخذ مواقفه بناءً على ما يتوافق مع مصلحته لا مع موجبات الحكم والأنظمة في لبنان، بحيثُ رعى حكم أكثريته في حكومة حسّان دياب من دون أن يرفّ له جفن.
تهويل الحزب، يظهر كدافع إحباط للبنانيين وكأنّه يقول لهم “حتّى لو تمكّنتم من إخراجنا من السلطة بصناديق الاقتراع، سنبقى فيها بقوّة سلاحنا”؛ حتماً يُدرك الحزب أنّ “قوّة الفرض” سقطت في عين الرّمانة وخلدة وشويّا وفي ساحات الثورة من وسط بيروت إلى عمق صور، ويُدرك أنّ لا وسيلة أمامه سوى الانعطاف نحو التّصعيد الكلامي.
أمام كلّ هذا الانفلاش اللاشرعي فوق جسد الدولة ورأسها، ما على الشّعب اللبناني إلّا أن يكون مُتأهِباً لأكبر ثورة دستوريّة في صناديق الاقتراع، بوجه كلّ “قوّة” تخال نفسها أكبر من الدّستور وأرفع من الشّرعيّة.
الأكثرية التي سيفرزها الشعب المنكوب والمُضرّج بالويلات ستحكم، بقوّة القانون ستحكم، خاصّةً متى كان عِمادها قوى ترفض المنطق الانبطاحي؛ وحكم الأكثرية التغييريّة سيفرض تطبيق الدّستور من داخل السلطة التشريعيّة وصولاً إلى التّنفيذيّة؛ عندها ولحظة استتباب النّظام في مساره الطبيعي، لن يكون أمام عون، سوى خيار وحيد وهو المغادرة.