في الأسابيع الأخيرة، دخل الإسرائيليون مرحلة الحرب المكتملة المواصفات في لبنان. في المقابل، هناك حرص شديد من الجانب اللبناني، أي من جانب «الحزب»، على تجنّب الرد بمستوى مُماثل من العنف والاتساع، لأسباب عديدة. وتشعر إسرائيل بامتلاكها هامشاً من المغامرة داخل الأراضي اللبنانية، يُخشى أن تقوم بترجمته في الأيام والأسابيع المقبلة.
قبل 5 أشهر، عند اندلاع الحرب في غزة، كانت مواجهات الجنوب تقتصر على مناوشات متقطعة، ولم تتجاوز خط الحدود شمالاً سوى بضعة كيلومترات. وفي كثير من الضربات، سعى الإسرائيليون إلى «اصطياد» أهدافهم مستفيدين من قدراتهم في مجال الرصد المعلوماتي وسلاح المسيّرات.
هذا «الانضباط» القتالي النسبي من جانب إسرائيل، كمّاً ونوعاً واتساعاً جغرافياً، كان بديهياً في بداية الحرب. والسبب هو وجود تفاهم ضمني بين الأميركيين والإسرائيليين، يعود إلى زمن صدور القرار 1701، يرسم خطاً أحمر لإسرائيل فوق لبنان.
ولذلك، على مدى الأعوام الـ18 الفائتة، بقيت إسرائيل تشن ضربات جوية شبه منتظمة على أهداف تعود إلى إيران و«الحزب» في سوريا، مُحاذية للحدود السورية – اللبنانية أحياناً، وبينها قوافل أسلحة وذخائر متوجهة إلى لبنان، لكنها لم تطلق صاروخاً واحداً على هدف في داخل الأراضي اللبنانية.
هذا التفاهم الضمني بقي ساري المفعول، على رغم أن إسرائيل أعلنت مراراً، في السنوات الأخيرة، وجود صواريخ دقيقة التوجيه ويمكن تحميلها رؤوساً غير تقليدية، في مستودعات واقعة في ضواحي بيروت. وأظهَر بنيامين نتنياهو، من منبر الأمم المتحدة، خرائط تَدّعي وجود أحدها في محيط المطار.
في العام 2006، عندما تم تدعيم قوات «اليونيفيل» في الجنوب وتوسيع صلاحياتها، كان يُراد تحضيرها لمهمة أبعد من حفظ الأمن في منطقة الحدود مع إسرائيل. فالهدف هو مساعدة لبنان على ضبط حدوده مع سوريا أيضاً، وتحضيره للدخول في مناخ التسويات في الشرق الأوسط، كما بشّر بها الأميركيون حينذاك، بقيادة جورج بوش. وهذا الهدف تُوافق عليه إسرائيل. وقد سلّمت للولايات المتحدة بأن تكون راعية للأمن في لبنان. وهذا التفاهم بقي حياً، لكنه آخذ في التفكك تدريجاً.
من الواضح أنّ هدف إسرائيل حالياً هو ضبط الحدود مع لبنان تماماً لكي تتفرّغ للحرب على غزة. وعلى العكس، «الحزب» يحرص على إبقاء «حرب الإشغال» مستمرة خدمةً لغزة. ومن مصلحة إسرائيل أن يعود الجنوب إلى «الستاتيكو» السابق، لكن «الحزب» لا يستطيع القيام بذلك. ومن مصلحة إسرائيل التزام القرار 1701 كما جرى تنفيذه حتى اليوم، فيما يطرح «الحزب» رؤية جديدة للتنفيذ.
أخذ الأميركيون على عاتقهم إقناع «الحزب» بالعودة إلى «الستاتيكو» السابق. وفي المبدأ هو لا يعترض عليه من زاوية لبنانية، لكنّ حرب غزة تشكّل إحراجاً له. وقد أبلغ الوسيط عاموس هوكشتاين باستعداده للدخول في تسوية حول الحدود البرية، موازية للتسوية التي أبرَمها حول الحدود البحرية قبل عامين، ولكن بعد وقف الحرب في غزة.
كان جواب الإسرائيليين: لا علاقة لكم بغزة. فلنعلن التسوية في الجنوب، وستكون مؤاتية لكم. وبدلاً من انسحابكم إلى ما وراء الليطاني، بضعة كيلومترات تكفي. فقط، فكّوا الارتباط بغزة.
لا يستطيع «الحزب» أن يفعل ذلك لأنه ينضوي في تحالف إقليمي. وهو يحاول الحفاظ على نقطة وسطى: لا يريد إراحة إسرائيل على الجبهة، لكنه يتجنب التسبّب في تفجير جبهة الجنوب واستعادة سيناريو حرب تموز أو ما هو أسوأ.
هذه النقطة الوسطى لا تكفي للحد من خطر إسرائيل التي تُفاقم الضغط على «الحزب» لدفعه إلى الحسم: إما التهدئة التامة وإما التفجير الكامل. وهي تدرك أنه سيتجنّب في أي شكل بلوغ الخيار الثاني الكارثي.
يراهن «الحزب» على أن الولايات المتحدة لا يناسبها التفجير جنوباً، ويريحه أنها لهذه الغاية تستنفر مجموعة الخمسة للتوسّط ما بين المعنيين جميعاً. كما يراهن على أن إسرائيل ستتجنّب حرباً واسعة ومُكلفة تشغلها في الشمال ويصعب تقدير تردداتها في الداخل، فيما تخوض حرباً «مصيرية» في غزة.
تقدير «الحزب» فيه جانب من الدقة. ولكن يصعب المبالغة في الرهان عليه، لأنّ المواجهات العسكرية تفرض تحوّلات عسكرية وسياسية غير محسوبة أحياناً. وقد بات معتاداً، منذ أسابيع، بلوغ إسرائيل مناطق وراء الليطاني في النبطية وجزين وصيدا، عَدا عن الضربة التي استهدفت العاروري في الضاحية.
هذا التوسيع يعني أنّ إسرائيل تجرأت وأسقطت الخط الأحمر السابق في شكل تدريجي، على مدى الأشهر الـ5 الفائتة، وأنها بدأت تُطلق يدها للمغامرة على مداها.
ولذلك، على لبنان أن يدرس الخط البياني للمواجهة الجارية مع إسرائيل، ليدرك أنّ السؤال هناك لم يعد: هل تقع الحرب أو لا تقع؟ بل السؤال: إلى أي مدى ستصل الحرب المندلعة أساساً؟
خلال هذا الأسبوع «المكثّف»، علّق الحريري قرار تعليق عمله السياسي وأجرى نوعاً من «الروداج» لإعادة تنشيط محركات «بيت الوسط» وتيار «المستقبل» إثر مرور وقت طويل على انطفائها، حيث بدا متحلياً بأقصى حيويته ومقيماً في قلب السياسة، وكأنّه كان يحاول ان يستفيد من كل دقيقة له في بيروت للتعويض عن غيابه السابق.. واللاحق.
ولعلّ من أهم الاستنتاجات التي تولّدت عن زيارة الحريري «الكاملة الدسم»، هو انّ غيابه الكامل على امتداد عامين لم يؤدِ إلى خروجه من المعادلة الداخلية، بل بقي مقعده فيها «محجوزاً» له ومُسجّلاً باسمه الى حين ان يقرّر استعادته في التوقيت الذي يعتبره مناسباً.
لقد ظهر انّ بيئته الشعبية لم تتخلّ عنه خلافاً لمعادلة «البعد جفا»، فبادرت الى ملاقاته فور رجوعه، في انعكاس لتعاطفها معه، بعدما شعرت انّه كان «ضحية» تعرّضت لمظلومية، وانّه الوحيد بين نظرائه الذي دفع الثمن ولم يتقاضاه.
كذلك الأمر بالنسبة إلى القوى السياسية التي تبيّن انّها لم تستبدل الحريري، وبقيت تفضّله على خيارات أخرى، لم تستطع ان تملأ الفراغ الذي تركه ولم تملك القدرة على تمثيل جزء واسع من المكون السنّي، مع ما تركه ذلك من انعكاسات سلبية على التوازن الداخلي المستند الى الأقطاب الأقوياء في الطوائف، وهذا ما عانى منه على سبيل المثال الرئيس نبيه بري عندما كان يحار في طريقة تمثيل البيئة السنّية على اي طاولة حوار وطني، بينما لم يكن يواجه مثل هذا الاختبار في ظلّ وجود الحريري، علماً انّ هناك من يفترض انّ التنوع في داخل هذه الطائفة كما في غيرها، هو امر إيجابي وصحي يعزز العملية الديموقراطية وتداول السلطة، وانّ المطلوب تعميم التنوع وليس تقليصه.
وهناك من يرجح ان تكتمل العودة النهائية للحريري الى السياسة مع الانتخابات النيابية عام 2026، حيث من المتوقع أن يخوض تلك الانتخابات بلوائح كاسحة، من شأنها ان تعيده اولاً الى المجلس بكتلة كبيرة، وثانياً الى رئاسة الحكومة، وفق تقديرات المتعاطفين معه.
وتروي إحدى الشخصيات التي زارت الحريري انّها خاطبته بالقول: «لو كنت حاضراً معنا في المعترك السياسي، لكان لدينا الآن رئيس للجمهورية. فأنت تحترف صنع التسويات».
وتعتبر تلك الشخصية انّ الداخل والخارج اكتشفا أن لا بديل من الحريري، بمعزل عمّا إذا كان حليفاً ام خصماً، لافتةً إلى انّ هناك علامات فارقة عدة طبعت فترة وجوده في لبنان، ومن بينها:
ـ زيارة السفيرة الأميركية «بيت الوسط» التي تعكس إشارة إلى موقف اميركي داعم لعودة الحريري الدائمة الى البلد والسياسة.
ـ ظهور الحريري على قناة «الحدث» السعودية، في اول مقابلة تلفزيونية له بعد انقطاع طويل، وفي ذلك دلالة الى معالم انفتاح متبادل عقب مرحلة القطيعة والجفاء، وإن يكن لدى البعض إقتناع بأنّ العلاقة بين الجانبين لم تستعد سويتها بعد، وانّ حظر الرياض على دور «مستدام» لرئيس تيار «المستقبل» لا يزال ساري المفعول.
– استضافة الحريري لرئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية على مائدة «بيت الوسط»، الأمر الذي اعطى لقاءهما خصوصية لا يمكن فصلها عن كون فرنجية مرشحاً اساسياً لرئاسة الجمهورية.
ـ زيارة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان للحريري على رأس وفد كبير من المشايخ، بكل ما تختزنه هذه المبادرة من تغطية سنّية تمثلها دار الفتوى لموقع الحريري، ومن إقرار بأنّه يبقى المرجع السياسي الأساسي للطائفة.
ولذلك، على لبنان أن يدرس الخط البياني للمواجهة الجارية مع إسرائيل، ليدرك أنّ السؤال هناك لم يعد: هل تقع الحرب أو لا تقع؟ بل السؤال: إلى أي مدى ستصل الحرب المندلعة أساساً؟