وصل لبنان إلى حدود الانفجار. قنابل كثيرة يمكنها أن تنفجر. لم تعد القنبلة المالية وحدها، ولا قنبلة التحقيقات القضائية الأوروبية. كل المؤسسات تعيش صراعات وتصدعات. من الصراع السياسي في المجلس النيابي حول الانتخابات الرئاسية، إلى الصراع بين الكتل على الكابيتال كونترول، والصراع الذي انفجر حول تقييم خطوة المحقق العدلي طارق البيطار، والذي انعكس في جلسة اللجان النيابية المشتركة. يقود ذلك إلى صراع قضائي مفتوح على مصراعيه، تجلى في استئناف البيطار لعمله مقابل الردّ والإدعاء عليه من قبل مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات. وإلى جانبهما، فإن الصراع مستمر بين مصرف لبنان والمصارف، وبين هذه المنظومة والدولة. ليضاف إليهما صراع بين قائد الجيش ووزير الدفاع على خلفية قرارات تخص المؤسسة العسكرية.
على إيقاع دولي
كل هذه المؤشرات تفيد بالإقبال على أيام خطرة. خطورتها في الفوضى التي سترسيها على الساحة اللبنانية. ولكنها قد تؤدي فيما بعد الى تسريع البحث عن تسوية. على وقع الصراع القضائي المفتوح وانتظار تداعياته، كانت السفيرة الفرنسية في بيروت تستكمل جولتها على مسؤولين سياسيين. إذ زارت رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ورئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل. وحسب المعلومات، فإن زيارتيها تهدف إلى ممارسة المزيد من الضغط للوصول إلى انتخاب رئيس للجمهورية.
وسط هذه التحركات، جاءت خطوة البيطار على إيقاع تدخل قضائي أوروبي في تحقيقات مالية وبتحقيقات فرنسية بريطانية تتعلق بملف انفجار المرفأ، إلى جانب موقف أميركي داعم لحركة البيطار، تجلى في البيان الذي صدر عن السفارة الأميركية وعن المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس، الذي أكد: “أنّنا أوضحنا في المجتمع الدولي منذ وقوع الانفجار، أنّنا ندعم ونحثّ السّلطات اللّبنانيّة على استكمال تحقيق سريع وشفّاف في الانفجار المروّع في مرفأ بيروت”.
سيناريو سياسي أمني
من هنا، ثمة من يعطي حركة البيطار غطاءً خارجياً، أو دفعاً مدعوماً بالتحركات القضائية الأوروبية في لبنان. ومن يعترض على أداء البيطار يعتبر أن خطوته تأتي بالتنسيق مع الخارج، لا سيما أن هناك ضغوطاً أميركية هادفة إلى إطلاق سراح أحد الموقوفين من حاملي الجنسية الأميركية. صحيح أن البيطار لم يلحظ إطلاق سراح هذا الشخص مع الموقوفين الخمسة الذي طلب إطلاق سراحهم، إلا أن معارضيه يعتبرون أنه سيلجأ إلى ذلك في الفترة المقبلة، بعد التيقن من طريقة تعاطي النيابة العامة التمييزية مع خطوته.
الاندفاعة المتجددة للبيطار، والتي يعطيها بعض السياسيين طابع الارتباط بسياق خارجي، قد تؤدي إلى تكرار سيناريو سياسي أمني حصل سابقاً في لبنان. إذ هناك من يستذكر مسار عمل ديفيد وولش والذي كان سفيراً سابقاً في لبنان، وفيما بعد مسؤولاً في الخارجية الأميركية عن ملفات الشرق الأوسط، والذي جاء إلى بيروت في أوائل نيسان من العام 2008، وفي أحد تصريحاته قال إذا عملت قوى 14 آذار على انتخاب رئيس من قبلها بالأكثرية، فنحن نؤيد هذا الخيار وندعمه. وبعدها استنفر حزب الله كل الاستنفار، وكانت أحداث السابع من أيار. انطلاقاً من هنا، ثمة من يعتبر أن ما قام به البيطار هو حدث كبير إلى حدود بعيدة، ولا بد من توقع تداعيات تصعيدية كبرى له، بالمعنى السياسي أو الأمني. وهناك من يعبر عن خشيته أن يؤدي هذا القرار إلى تداعيات وأحداث مشابهة لما جرى في مرحلة العام 2008، فيذهب التحقيق ضحية موجة سياسية كبرى خارجياً، ويتم بموجبه تركيب تسويات سياسية متعثرة حتى الآن.
فوضى سياسية وشعبية
من هنا ثمة من يتخوف من أن يكون الحجم الضخم للقرارات القضائية التي أصدرها البيطار، مقدمة لفوضى سياسية وشعبية، تؤدي إلى توترات أمنية مثلاً، خصوصاً أن هؤلاء يتوقفون أمام توقيت الخطوة ويطرحون تساؤلاً: “طالما أن لدى البيطار الصلاحية والاجتهاد القانوني لممارسة عمله، فلماذا توقف عن ممارسة عمله طوال هذه الفترة؟ ومن الذي سيعمل على التعويض عن هؤلاء الموقوفين الذين طالب بإطلاق سراحهم؟ ومن الذي سيعوض عن ألم أهالي ضحايا المرفأ؟”. و”بحال لم يتم إطلاق سراح الموقوفين، فأهاليهم سيتحركون، فيما سيكون التحرك المقابل لأهالي الضحايا، ما سيؤدي إلى فوضى في الشارع أمنياً وسياسياً”. فيما قد تقود هذه الفوضى إلى الذهاب لتسريع الضغط الخارجي بهدف الوصول إلى تسوية خارجية.
ربما تعاطى البيطار على قاعدة إرضاء غروره كقاض في مواجهة محاولات أسره وتعطيل عمله، أو على قاعدة “قال كلمته أمام التاريخ ومشى”، فلجأ إلى هذه الاستدعاءات التي تطالهم “كلهم يعني كلهم”. ما سيكثف من الحملة عليه وسيتكتل الجميع ضده، فيما الفوضى السياسية وفي الشارع ستؤدي إلى توسع الفوضى في القضاء، وسط من يعتبر أن هذا الجسم القضائي المترهل لن يستمر على حاله، وبما جرى سيفتح مسار تغييره كلياً أو إعادة هيكلته.