مما لا شك فيه ان العدوان الاسرائيلي قد أثر بشكل عميق في المجتمع اللبناني والفلسطيني، لا سيما الأطفال. فقد حصدت الحرب آلاف الضحايا، وأدت إلى توسيع نطاق النزاع ليشمل مناطق جديدة، مما جعل من الأطفال شهداء مآسي لا يجب أن يعيشوها. إذ أُجبر الكثير منهم على رؤية أهاليهم أشلاءً، مما يترك آثاراً نفسية خطرة فيهم.
في سياق متصل بالأحداث التي تجري في المنطقة عموما ولبنان خصوصا، رأينا مؤخرا مقاطع فيديو مؤلمة تُظهر أطفالًا رفعوا أيديهم إلى السماء، يدعون الرب من أجل معجزة توقف هذه المأساة. ومن بين هذه المشاهد، كان هناك فتاة صغيرة تبلغ من العمر حوالى سبع سنوات تحمل على ظهرها أختها ذات أربع السنوات التي تعرضت للإصابة، تبحث في لحظات الفوضى عمن يضمد جراحها ويعالجها ويمسح دموعها.
هذه الصور ليست مجرد لقطات عابرة، بل تجسد واقعا مؤلما حيث شهد الأطفال مجازر أمام أعينهم، سمعوا أصوات القصف والانفجارات، وعايشوا أعمال عنف غير إنسانية. تبين كل هذه الأمور أن الإنسانية باتت في مكان بعيد جدًا عن المفهوم الذي تربينا عليه، مما يتطلب منا إعادة التفكير في القيم الإنسانية الأساسية التي يجب أن نحافظ عليها.
بالموازاة، إن هذه المعاناة ليست مجرد قصص من زمن بعيد، بل هي واقع يعيشه الأطفال يوميا، مما يستدعي من الجميع العمل من أجل تغيير هذا الواقع الأليم. وفي هذا السياق، تشير الأبحاث في علم النفس الاجتماعي إلى أن تعرض الأطفال لمناظر العنف والتفكك الأسري يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات نفسية معقدة. كما أظهرت سيدة تحدثت إلى “الديار” عن أطفال من عائلتها شهدوا جيرانهم في المبنى المستهدف أشلاءً وكان ذلك في اليوم الذي اغتيل فيه القيادي البارز في حزب الله فؤاد شكر. لذلك، تؤدي هذه الصور الحقيقية إلى زعزعة استقرارهم النفسي وزيادة مشاعر الخوف والقلق لديهم.
في المقابل، قد يتطور لدى الاطفال هواجس تتعلق بالأمان، مما قد يؤثر في قدرتهم على بناء علاقات صحية في المستقبل. قد تظهر على اولئك الذين يتعرضون لمثل هذه التجارب القاسية أعراض مثل الاكتئاب، وصعوبة التركيز، والتواصل الاجتماعي، والخوف المستمر من المستقبل. كما ان الشكوك حول سلامتهم وسلامة أحبائهم قد تؤدي الى صدمات عميقة ترافقهم طوال حياتهم. لذا، يتطلب الأمر جهداً جماعياً من أفراد الأسرة والمجتمع لمساعدتهم على التعافي وتجاوز هذه التحديات، من خلال توفير بيئة داعمة وآمنة لهم، وتقديم الرعاية النفسية اللازمة.
مرئيات مرعبة ولا في الخيال
من جهتها، تقول الاختصاصية النفسانية والاجتماعية غنوة يونس لـ “الديار”: “يعيش الأطفال في لبنان وغزة اليوم ظروفًا قاسية بسبب النزاعات المستمرة. يعاني هؤلاء من تجارب تتضمن العنف، الخوف، التهجير، وفقدان أحبائهم بشكل كبير ومتكرر ويومي. يواجه الكثير منهم اختبارات كبرى، مثل حمل مسؤوليات غير مناسبة لأعمارهم، وتلبية احتياجات عائلاتهم في ظروف غير إنسانية. يعرضهم هذا الوضع المؤلم لخطر “فقدان الطفولة” (Loss of Childhood)، حيث يُجبرون على التخلي عن سنوات طفولتهم البريئة ليواجهوا واقعا يفوق قدرتهم على التحمل”.
النتائج النفسية
وتشير يونس إلى أن التأثيرات النفسية للأطفال الذين شهدوا النزاعات تتضمن ما يأتي:
الخوف الدائم والقلق: يجد هؤلاء الأطفال أنفسهم في حالة يقظة مفرطة، متوقعين الخطر في أي لحظة، مما قد يؤثر في نموهم النفسي.
الكوابيس واضطرابات النوم: يعاني كثيرون من كوابيس متكررة، مما يجعل تجربة النوم مليئة بالهلع. قد ينجم عن النوم المضطرب آثار جسدية كالإرهاق المزمن، الذي يعيق نمو الأطفال وتطورهم.
الشعور بعدم الأمان: يجعل فقدان المنزل والشعور بعدم الأمان الاطفال يشعرون بأن حياتهم غير مستقرة، مما ينعكس على سلوكهم وردود أفعالهم تجاه الآخرين.
الفقدان المبكر للطفولة
تتابع يونس، “يفقد هؤلاء الأطفال تجربة طفولتهم بشكل طبيعي، حيث يكون عليهم مواجهة واقع جديد يتطلب منهم النضوج المبكر والاعتماد على أنفسهم. هذه الظروف تؤدي إلى:
تحمل مسؤوليات غير مناسبة: يُجبر الأطفال على العمل أو حمل أعباء أكبر من طاقاتهم، مثل إيصال المؤن أو العناية بالإخوة الأصغر، وهو ما يتجلى في فيديوهات النزوح في غزة.
غياب الترفيه واللعب: يعيش هؤلاء في بيئة لا تتيح لهم الترفيه، مما يُفقدهم فرصة تطوير مهاراتهم الاجتماعية والمعرفية الأساسية.
الآثار الاجتماعية
وتضيف، “لا تؤثر الحرب في الأطفال بشكل فردي فحسب، بل تترك أثرا عميقًا في تفاعلهم الاجتماعي وقدرتهم على بناء علاقات صحية. تشمل التأثيرات الاجتماعية:
صعوبة التكيف مع المجتمع: يجد الأطفال الذين تعرضوا للعنف صعوبة الانخراط في بيئات آمنة في المستقبل. قد يشعرون بأنهم غير قادرين على الثقة في الآخرين أو التفاعل بشكل طبيعي.
العدوانية وردود الفعل العنيفة: تعرض الأطفال للفظاظة قد يدفعهم أحيانًا إلى تقليد هذا العنف، مما يجعلهم أكثر عدوانية في تعاملهم مع أقرانهم.
التبعات طويلة الأمد
وتؤكد يونس “أن الدراسات تشير إلى أن الأطفال الذين عاشوا تجارب النزاعات قد يواجهون في المستقبل تحديات مثل صعوبات في التركيز والتعلم، وتراجع القدرة على الثقة وبناء علاقات بعيدة الأمد، وحتى احتمالية زيادة في الاضطرابات النفسية كالشخصية المعادية للمجتمع”.
دور العلاج النفسي والتدخل المجتمعي
وتوضح أنه “بالرغم من شدة هذه التجارب، يمكن التقليل من نتائجها عبر التدخلات المناسبة، مثل:
العلاج النفسي المعرفي السلوكي: يُستخدم هذا العلاج لتقديم الدعم للأطفال المتضررين ومساعدتهم في إعادة صياغة أفكارهم السلبية وتخفيف أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.
البيئة الآمنة والداعمة: توفير بيئات تعليمية واجتماعية تعزز شعور الأمان، وتتيح للأطفال ممارسة أنشطة طبيعية تساعد في استعادة طفولتهم الضائعة.
الدعم المجتمعي: تلعب المجتمعات المحلية دورا كبيًا في تأمين الدعم النفسي للأطفال عبر أنشطة جماعية تتيح لهم التنفيس عن مشاعرهم.
وتختم يونس بالتنويه إلى ان “التأثيرات النفسية والاجتماعية للحرب في الأطفال في لبنان وغزة تتطلب التفاتًا حقيقيًا. إذ يمكن للتدخلات النفسية والدعم المجتمعي أن تحدث فرقًا كبيرًا في حياة هؤلاء الأطفال. لذلك، تعد الحرب من أصعب التجارب التي يمكن ان يمر بها الانسان، حيث تحمل في طياتها آلاما ومعاناة لا تحتمل”.